لم أفقد حاسة الشم ولا حاسة التذوق، ولكنني فقدت الشهية للطعام عمومًا لمدة ثلاثة أيام، مع الصعوبة في التنفس، والسعال الشديد المتواصل، وكأن بلاطة حطت على صدري، بحيث لم أعد أقوى على الوقوف لأداء فريضة الصلاة، هكذا وصف الدكتور يونس الأسطل حالته الجسدية قبل أن تظهر نتيجة الفحص، التي أكدت إصابته بفيروس كورونا.
وقريب من هذا الوصف، أكد لي الدكتور جمال أبو شمالة، بأنه لم يفقد حاسة الشم والتذوق، ولكنه شعر بالوهن العام، بحيث لم يعد قادرًا على رفع فنجان القهوة بيده، فالجسد منهك، مع الإحساس بضغط على الصدر حال بينه وبين التقاط النفس، وهنا أشار عليه زملاؤه أطباء القلب بعمل "قسطرة للقلب"، ولكن درايته الطبية بأوجاع القلب ألزمته إجراء فحص لفيروس كورونا، وكانت النتيجة إيجابية.
ولأكثر من ثلث ساعة، ظل الدكتور يونس الأسطل يحدثني عن الخدمة الفائقة التي يقدمها المستشفى الأوروبي للنزلاء، وكيف يسهر كل من في المستشفى على تقديم أقصى ما لديهم من خدمات للمرضى، حتى حسبت أن الرجل يتحدث عن مستشفى في باريس أو لندن.
إن انتقال المصاب بفيروس كورونا إلى المستشفى الأوروبي بحد ذاته أمرٌ مخيف، فالإنسان توسوس له نفسه بأشياء كثيرة، ويظن أن دخوله غرفة العناية المركزة يعني النهاية، وأن وضعه أمسى مستعصيًا على العلاج، وهنا يأتي دور الأطباء والممرضين، الذين لم يشغلهم جسد المريض فقط، وإنما اهتموا بعميق الروح، فراحوا يشدون من أزر المرضى، ويبثون فيهم الأمل، ويشجعونهم على الصمود، فإن أدركوا أن حجم القلق والخوف قد زاد على الحد، يلجأ الأطباء إلى المهدئات؛ كي ينام المريض، فالقلق والخوف واليأس منشطات للفيروس.
بعد صلاة الصبح، يتوجه الأطباء من مدينة غزة في الشمال إلى المستشفى الأوروبي في الجنوب، ليباشروا عملهم مع شروق الشمس، لا يلتفتون إلى ساعات الدوام، وإلى مواعيد العمل الرسمية، هم أطباء يعالجون مرضى، وطالما كان المريض بحاجة إليهم فهم في الخدمة دون الالتفات إلى الراتب الذي لا يتقاضونه كاملًا، ودون السؤال عن مصيرهم، ومصير أسرهم فيما لو انتقلت إليهم العدوى، وهم المنغمسون في أتون الحرب ضد الفيروس على مدار الساعة.
لقد وصف لي الدكتور يونس الأسطل نشاط الأطباء والممرضين على مدار الساعة، فهذا يأخذ عينة للفحص، وذاك يتابع انسياب المحلول، وآخر يشرف على النظافة، وغيره يدقق في ضربات القلب للمريض، ويفحص الضغط، فلا يشعر المريض بالوحدة، أو أنه غائب عن عين الرقيب، الذي يتابع دقائق الأمور لأوضاع المرضى.
في المستشفى الأوروبي 400 متطوع من الشباب والصبايا، يعملون بظروف صعبة، لا راتب لهم، ولا مكافأة حتى الآن، وهم في قلب المعركة، وعطاؤهم لا يقل عن عطاء من يحمل البندقية ويدافع عن الوطن، إنهم جيش الاحتياط الذي يتدرب على العمل، ويستعد لتحمل المسؤولية.
الأمر جد خطر، وعلينا الحذر، وعدم الاختلاط، والابتعاد عن التجمعات قدر الإمكان، علينا أن نأخذ بالأسباب، وأن نراعي كل وسائل الحيطة، وأن نطبق كل التعليمات الصادرة عن وزارة الصحة، تجنبًا لاحتباس النفس، واللهفة على جرعة الأكسجين التي تقدمها الأجهزة الطبية، وهذه وصية مريض يعاني لأيام وأسابيع من فيروس كورونا.
وسط هذه الأجواء، ضحكت حين حدثني الدكتور يونس الأسطل عن تخيلاته كمريض كورونا في غرفة العناية، قال: كنت مستغرقًا في النوم حين سمعت حركة قريبة من سريري، فتحت عيني، فشاهدت اثنين بألبسة بيضاء، وعلى رؤوسهم أغطية زجاجية ويرتدون ملابس خاصة، للوهلة الأولى، حسبت أنهم من الملائكة، وقد جاء الأجل، فشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ولم أتبين هوية الزائرين الغريبين إلا بعد أن تحدث أحدهما، وسأل عن حالي: فعرفت أنه الدكتور يوسف أبو الريش وكيل وزارة الصحة، وعرفت أن الثاني هو الدكتور عاطف الحوت مدير مستشفى أبو يوسف النجار، كانا يقومان بجولة ميدانية لتفقد أحوال المرضى!