تعمل "إسرائيل" لاستثمار ما سمي (بالعصر الذهبي) والاستفادة إلى أقصى حد ممكن من مسار التطبيع الحالي، لاسيما الملف الأمني الذي يركز على مهمات جوهرية أبرزها وقف الإمدادات عن المقاومة، وتجفيف منابعها، والحد من قدراتها، لذلك فإن دخول السودان على خط التطبيع شكل انتصارا كبيرا لدوائر صنع القرار الإسرائيلي لأهمية السودان جغرافيا وسياسيا وأمنيا.
فالسودان يحتل موقعا استراتيجيا في القارة الإفريقية، تعتبره "إسرائيل" إحدى القنوات والممرات الرئيسة لتهريب السلاح وإمداد المقاومة في قطاع غزة، فوجود التطبيع سيفرز تفاهمات أمنية بين الخرطوم وتل أبيب من شأنها ضبط الحدود، والحد من وصول السلاح للقطاع، وبالتالي قطع الشريان الأهم الذي تتغذى به رئة المقاومة.
هذا الدور يتكامل تماما مع ما يجري في مصر فالجدار الذي شيد مؤخرا على الحدود بين قطاع غزة ومصر لدواعٍ أمنية، هو ناتج عن تفاهمات مصرية إسرائيلية الغرض منها منع حالات التسلل، ووقف نشاط التهريب، وقطع خطوط الإمداد عن المقاومة في غزة، وقد تزامن ذلك مع بحث مستمر عن الأنفاق من الجانب المصري وتفجير كل ما يتم اكتشافه، وإغراق الخطوط الأخرى بالمياه العادمة أو مياه البحر.
وقد أُنشِئت مؤخرا العديد من القواعد العسكرية لهذا الغرض حيث افتتحت مصر قاعدة "برنيس" العسكرية الكبرى في منتصف يناير 2020 في منطقة ساحل البحر الأحمر بالقرب من الحدود الدولية الجنوبية شرق مدينة أسوان، وقد بلغت مساحة هذه القاعدة 150 ألف فدان، وتضم بداخلها قاعدة بحرية وقاعدة جوية ومستشفى عسكريا وعددا من الوحدات القتالية، والإدارية والميدانية، للتدريب والرماية على جميع الأسلحة، وأُنشئت هذه القاعدة الضخمة بتمويل إماراتي بقرار من محمد بن زايد مهندس التطبيع في المنطقة.
هذه القاعدة سيمتد ضررها إلى كل جبهات المقاومة وستعطي أهمية بالغة لتحقيق إنجازات مختلفة تؤثر في نفوذ ونشاط المقاومة في المنطقة، كونها نقطة مركزية ومتقدمة في البحر الأحمر وتغطي منطقة حساسة (باب المندب) تحتاج إليها "إسرائيل" وبعض الأنظمة لتبقى قريبة ومطلعة وتساهم في إفشال مخططات وأنشطة المقاومة، وبالتالي تؤدي لكشف سريع لأي تهديدات، ما يمكنها من ضمان وجود عوائق واعتراضات لأي أنشطة تعتبرها مشبوهة وتضر بأمنها، فكانت هذه القاعدة ذراعا جديدا يتقاطع مع مصالحها ومع مصالح بعض الأنظمة التي تعتبر محور المقاومة مهددا لأمنها ولاستقرار نظامها.
الأمر ذاته يمارس في الحدود الليبية لخشية الاحتلال الإسرائيلي من تدفق السلاح أيضا من خلال الحدود الليبية، لكون ليبيا تعيش ظروفا غير مستقرة والصراع ما زال قائما فيها والساحة الليبية أصبحت ممتلئة بالأسلحة المتوسطة والخفيفة التي يمكن نقلها وإيصالها لغزة، سواء بشراء بعضها أو الحصول على دعم بدافع مساعدة المقاومة في فلسطين.
وقد لعبت أطراف إقليمية و دولية دورا محوريا من خلال دعم قائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر لتقويض نفوذ الإسلام السياسي المتزايد منذ الثورة الليبية، لخشية هذه الأطراف من ظهور ثقل سياسي وميداني في ليبيا يمكن أن يشكل جبهة جديدة لدعم المقاومة في المنطقة، ويعزز من دور المحور المناهض، لذلك تم تطوير وتعزيز القاعدة الثانية التي أطلق عليها (محمد نجيب) العسكرية على مساحة 72كم، في مدينة الحمام في مرسى مطروح، وتشمل هذه القاعدة أسلحة هجومية متطورة، وتم تعزيزها بنحو 450 ناقلة حديثة لنقل الدبابات الثقيلة من منطقة العامرية، كذلك إعادة تمركز وحدات عسكرية أخرى بها.
وجاء إنشاء وتطوير قاعدة "براني" العسكرية، لرفع الكفاءة القتالية بها وتعزيز قدرتها على تنفيذ المهمات المختلفة وعلى رأسها منع تسلل الأشخاص عبر الحدود الليبية، والتصدي لمحاولات تهريب الأسلحة، حيث تحتل هذه القاعدة أهمية بالغة كونها تشكل تمركزا نوعيا في تلك المنطقة قادر على إفشال كل محاولات التسلل والتهريب، بالإضافة إلى القدرة على تنفيذ هجمات متعددة.
هذا الواقع الصعب الذي فرضه التطبيع العربي مع الكيان الإسرائيلي وفرضته التفاهمات الأمنية والعلاقات السياسية المختلفة مع الكيان، ساهم في قطع العديد من خطوط الإمداد، وجعل المهمة في وجه المقاومة تبدو شاقة وعسيرة، ما دفعها لتفعيل البدائل والبحث عن قنوات وطرق جديدة، لتعزيز قدراتها، وزاد من تصميمها على الاعتماد على تعزيز قدراتها الذاتية من خلال (التصنيع العسكري)، وقد نجحت بالفعل في نبش الأرض والغوص في أعماق البحر حتى أصبحت تمتلك القدرة على الردع.