"ليس المهم أن يكون رأس المرء أبيض ليتحدث عن تجاربه"، فالأسير عمّار الزبن فدائي فلسطيني شاب وأديب حكى لنا من سجنه، حكاية كم وددت ألا تنتهي، عَبَرَ بنا من خلاها الطريق المؤدي إلى شارع ربما لم يعد يدخله رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو؛ هربًا من الذكرى الأليمة.
"الطريق إلى شارع يافا" رواية تمتن فيها لصاحبها الذي ينقلك إلى البدايات الجميلة أو النحت الأوّل للعمل المقاوم في جبل النار، حكاية انطلاق كتائب القسام.
تعيش التفاصيل المشوّقة للعمل الفدائي الذي انطلق في مطلع التسعينات تحت اسم "وحدة الشهداء لتحرير الأسرى"، أو ما عُرفت بخلية "عصيرة الشمالية"، التي قال بحقّها رئيس الشاباك آنذاك "يورام كوهين": "لقد أرهقونا بالبحث عنهم؛ لاستخدامهم التمويه الدقيق الذي لم يسبق أن رأيناه".
أعاد النصّ لنا حكاية شارع في وسط مدينة القدس شهد أكبر عمليات للمقاومة الفلسطينية منذ 1948، بكثير من تفاصيل الحرب الأمنية الخفية، وتكتيكات التخطيط والاتصال بين ثلاث دوائر لا تعرف بعضها، والغطاء والدعم المعنوي من شيخ الفدائيين يوسف السوركجي الذي كان يردد عليها بأن "المقاومة هي التي تصنع السياسة وليس العكس".
هو الشارع الذي يحمل اسم الرواية، ويضم طريق "بن يهودا" الذي سمِّي نسبة إلى "إليعيزر بن يهودا"، اليهودي الذي يقال إنه أحيا اللغة العبرية، فلم يعد المارون عبر هذا الطريق يذكرونه بقدر ما يذكرون الشهيد خليل الشريف الذي أحدث بتفجيراته ارتجاجات لديهم في الشارع والذاكرة.
صحيفة "معاريف" العبرية كشفت في أغسطس 2001، أن 15 عملية استشهادية كبيرة وقعت في القدس منذ احتلالها عام 1967، غالبيتها في شارع يافا.
تنقلت بين سطور الرواية وأشعر براويها وكأن الذكرى تدهس قلبه، وشوق منه إلى رفاق الدرب والقيادة البهية على رأسها قائد القسام محمود أبو هنود، التي كانت تعمل على قاعدة "العمل النخبوي" الذي لا حاجة فيه إلى أعداد كبيرة في ظل الإمكانات المحدودة والظروف الأمنية.
أول الدروس فيها هي أن تشعر بقيمة العضوية في المقاومة الفلسطينية وكتائب القسام، في زمن "المطاردة الساخنة" التي نصَّت عليها اتفاقية أوسلو حال الضرورة في مناطق "أ" التابعة للسلطة الفلسطينية، والهرب من التنسيق الأمني وسجن "الجنيد" في نابلس إلى الجبال، والقفز عن العوائق الحجرية أو "السناسل" بتسمية أهل الجبال، واتباع كل أساليب التخفّي ومنها ما ذكره الأسير عن خطة "صغير الشنار" الذي ينقلب على ظهره حال الخطر فيبدو للعدو حجرًا!
معلومات وافرة عشناها عن حياة القيادة العسكرية الأولى التي أقسمت أن تحيل ابتسامة نتنياهو الوقحة على شاشات التلفزة إلى "بكاء من دم"، حين تحدّى الجميع -في أثناء رئاسته للوزراء للمرة الأولى بين عامي 1996و1999- بقوله: "لقد قضينا على إرهاب الفلسطينيين الذي تقوده منظمة حماس، ولن تعود تلك الأيام"، قبل أن يعود هو للبكاء على شاشات التلفزة، ويدفع رئيس الكيان في حينه "حاييم فايتسمان" للقول وهو يزور مكان إحدى العمليات بعد وقوعها في الشارع: "هذا أسوأ يوم في حياتي".
الأسير عمّار الزبن أثبت أن الرجال صناديق مقفلة، وقدّم لنا عبر روايته في أدب المقاومة، واحدة من دروس المعايشة التربوية التي تعين وارثي الفكرة والسلاح على تحقيق ما سمّته الخلية بـ "واجب الوقت" الذي تشكلت لأجله، وهو تحرير الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال، واكتشاف المعاني الكامنة وراء الفعل الفدائي، والحاجة دومًا إلى معايشة البدايات الأولى لشحن الهمم والعزم على مواصلة الطريق.
اللهم ذكرى كذكريات عمّار الزبن