فلسطين أون لاين

في قصة "بيت الجبل" كل شيء تغير إلا القضبان

في "القسم رقم 7".. "الهودلي" عاش 12 عامًا بـ"مدرسة الثورة"

...
غزة- يحيى اليعقوبي:

بسجن "جنيد" بنابلس، "الوافد الجديد" وليد الهودلي يسأل الأسير نائل البرغوثي: "كيف أمضيت 12 عامًا هنا؟".. يطل الأخير من نافذة غرفته بالسجن: "شايف البيت هداك!"، ثم أتبع كلامه وهو يشير بيده نحو الجبل: "لقد راقبت ذاك المنزل كل يوم من هذه النافذة، حينما كان قطعة أرض، وبعد سنوات جاء المساح وعمال البناء وبدؤوا في أعمال تسوية".

ثم ربت على كتفه وفي صوته شجون ومسافة طويلة من الانتظار والحنين تختلف عن حسابات القياس: " كنت أراقب البناء من القاعدة حتى شُيِّد كاملًا".

تنهيدته التي سبقت إجابته هنا تروي 100 حكاية من الألم: "حينما اكتمل البناء رأيت أناسًا يزفون عروسين للبيت، ثم صرت أراهم كل يوم وهم يخرجان للتنزه".

ما زال يرحل بصوته إلى تلك الأيام: "بعد مدة رأيتهم وهم يحملون طفلًا صغيرًا وكنت أراه وهو يكبر شيئًا فشيئًا حتى صار يلعب على باب البيت، مرت الأعوام وكبر الطفل أكثر وأنا أراقبه كل يوم من نافذة السجن، أعيش في نفس المكان، كل شيء يتغير حولي، أراقب الحياة التي تمضي بسرعة حتى ملامحي وسنوات عمري إلا القضبان التي لم تتغير".

أخرج الهودلي المنديل ومسح دموعه، وعانق البرغوثي وعرف أنه سيمكث بجانب "مدرسة الثورة".

سجن "جنيد"

سجن جنيد، قسم رقم (7) الغرفة رقم (12)؛ يبدأ وليد الهودلي يومه الأول هناك بعدما حكم عليه الاحتلال بالسجن 12 عامًا، تتزاحم الأسئلة بداخله: "كيف سأمضي كل هذه المدة؟"، قبل أن يجد بداخل الغرفة أسيرًا أمضى من محكوميته 12 عامًا، وكان الأسير نائل البرغوثي، وقص عليه ما سبق.

تفاصيل لقائه الأول مع البرغوثي تسكن ذاكرة الهودلي في حديثه مع صحيفة "فلسطين": "بعد إجابته تلك، أدركت أن أمامي شخصية ترفع المعنوية في صبرها وتحديها، وأن ما ندفعه من أثمان باهظة هي بسيطة لأجل قضيتنا، وأن السجن ضريبة التحرر".

ما إن تنسلي شمس الصباح، وتلقي بجدائلها الذهبية التي لا يعرفها الأسرى في سجون الاحتلال المعتمة، وتصل عقارب الساعة في دورانها عند السابعة صباحًا، حتى يخرج البرغوثي ونحو 300 أسير إلى ساحة السجن الخارجية بمساحة ملعب كرة سلة يسيرون دائريًّا.

في هذا المشهد يجب على الأسير التزام حركة سير منتظمة نتيجة صغر المساحة، في الأعلى يغطي "الفورة" سقف من الشباك الحديدية، كلما حاول الأسير رؤية السماء أو جمال الشمس، تفسد هذه الشباك جمال المشهد وتقطع نظره، سرعان ما تنتهي الساعة ويعود البرغوثي المعروف بنشاطه الرياضي مع الأسرى إلى غرفة السجن.

أصبحت حياته في السجن تسير خلف النمطية، صباح باكر، ضابط السجن يأخذ العدد الصباحي، أبواب السجن تفتح كل يوم إلى "الفورة" عند السابعة، وهي المكان الوحيد الذي يتسلل منه بعض النور من الخارج، تمضي الساعة المسموح للأسرى الخروج فيها للساحة، ثم يعودون إلى سجونهم في داخل أقسام الأسرى.

لم تمحُ الأيام والسنوات تلك التفاصيل من ذاكرة الهودلي: "الغرف معترك سياسي نمارس فيه عدة أنشطة، يشارك الأسير في إعداد الطعام، وترتيب الغرفة، يمضي الوقت بالحديث أو الصلاة والقراءة أو الاستماع للإذاعات ومتابعة الأخبار، حتى يأتي موعد "الفورة" والخروج مرة أخرى للساحة الخارجية نفسها، فيها يجلس الأسير لمدة ساعة أو ساعتين يتبادل الحديث مع أصدقائه الأسرى", وفي هذا المكان يحضر الأسير صلاة الجمعة".

"كان الأسير نائل رياضيًّا يحافظ على الصلوات، يستيقظ الفجر، كنت أراه يضع المذياع على أذنه لسماع الأخبار، وبعدها يخرج للساحة لممارسة الرياضة، ويعود للغرفة لتناول طعام الإفطار، يحب لعب كرة تنس الطاولة، ثم نعود ونقرأ القرآن، كانت "الفاصوليا" أكثر الوجبات التي تقدمها سلطات السجون الإسرائيلية، كنا لا نأكلها".

يجبره الموقف على إخراج تنهيدة ممزوجة بالسخرية: "أحيانًا يقدم لنا الاحتلال "الشوربة" وكنا نسخر منها، ونتهكم فيما بيننا: إنه "يجوز فيها الوضوء، فكان معظمها ماء ولا نرى مكوناتها من الخضار".

ساعة تحت المطر

البرد القارس يحوم بسجن عسقلان، الغيوم تتهيأ لسقوط زخات المطر، يخرج الأسير نائل في أحد الأيام، بعدما بدأت زخات المطر بالتساقط بشكل غزير إلى ساحة السجن، يمارس رياضته المفضلة بالدوران تحت المطر، تلك التفاصيل تجذب ذاكرة الهودلي إليها: "خرج بعض الشباب لتحدي البرغوثي استمروا ساعة كاملة تحت المطر الغزير (...) كانت روحه روح شباب لا يصدق أنه أصبح كبيرًا في السن كأنه لم يحسب سنوات السجن".

في أحد أيام السجن، شاب جديد يأتي أسيرًا إلى سجن عسقلان، الهودلي وبعض الأسرى، يوجهونه: "هل ترى ذلك الختيار؟ يكنى بأبي "النور".. اذهب وامشِ معه"، وقبل أن يذهب أوصوه: "لما تحكي معه من باب الاحترام احكيله يا عمي؛ يحب أن يسمعها".

وما إن وصله الشاب ناداه: "عمي أبو النور"، التفت البرغوثي نحوه غاضبًا: " من وين أنا عمك أنا زي زيك وقدي قدك".

يعلق الهودلي مستذكرًا بضحكة طويلة استرجع معها اللحظات الجميلة التي تهون مرارة السجن سبقت كلماته: "كان يكره سماع أي شيء يشير إلى كبر سنه، وكأنه لا يعترف بمرور تلك السنوات".

من جديد يبحر بشخصية رفيق الأسر: "هو صاحب نكتة، يضحك الشباب ويمزح معهم لا يشعرهم أنه مقاوم ومناضل كبير أمضى سنوات طويلة في الأسرى، فكان متواضعًا، كنا نستمد منه القوة الروحية والصبر والعزيمة، نشعر ونحن بقربه بأننا أقوياء نستطيع تحدي السجان".

الجميل في البرغوثي كذلك، أنه لم يصدر منه أي حرف يدلل على أنه ضعيف ومحبط، لم يسمع الهودلي وغيره من الأسرى من كلامه ومشاعره ولغة جسده وابتسامته وضحكه إلا ما يدلل على أنه في قمة معنوياته.

مدرسة ثورة

رغم شخصيته المرحة بين الأسرى، فإن البرغوثي كان صلبًا في وجه إدارة السجون، فدائمًا يأخذ الموقف الأقوى.. "نائل كان مدرسة ثورة تشعر أنه معني بإيصال رسالة لرفع معنويات كل من حوله لا يقبل الحديث مع السجان بنفس ضعيف، فلا يتحدث إلا من موقع الندية وبأنه إنسان حر يأبى الخنوع والاستسلام، دقيق في المصطلحات التي تصف الاحتلال بالاحتلال" والكلام لرفيق السجن.

الهودلي يحتفظ بقصة رواها له البرغوثي، ذات يوم أخذته والدته هو وشقيقه عمر لشراء أحشاء الخراف "كرش"، ووضعت الأغراض على سطح الحافلة الصغيرة، وبعدما وصلت الحافلة إلى قرية "كوبر"، نزلت أمه بحثت عن "الكرش" فلم تجده، غضبت والدته التي أوصت ابنيها بالانتباه لكل من ينزل أغراضه من سقف الباص، وحذرتهم: "فش مبيت الكم إلا لما تجيبوا الكرشات"، يكمل: "قالي لي البرغوثي: ذهبنا للقرى المجاورة وكنا ننادي وندعو على من سرق "الكرشات"، يومها خرج مختار القرية وقال لنا: "بدكم تموتوا كل البلد عشان كرشات"، وساعد في إيجاد المفقودات.

الأول من آب/ أغسطس 2002، انتهت فترة محكومية الهودلي، وحان موعد الحرية، البرغوثي وصل في سنوات سجنه عند 24 عامًا، في هذه اللحظات يتشوق كل أسير لعبق الحرية، لكنها لحظات ممزوجة بالدموع والفراق، والأسى على حال أسرى سيبقون داخل سجون الاحتلال، رغم أنهم يتمنون معانقة الحرية والخروج من بين قضبان الاحتلال، يدغدغ الموقف مشاعر الهودلي وهو يستذكر لحظاته الأخيرة بالأسر تهيأ للبكاء: "كان الإفراج مفاجئًا، لأنه جاء قبل الموعد المحدد بعدة أشهر بعد موافقة محكمة الاحتلال العليا على الالتماس الذي قدمته".

على باب قسم الأسرى، بعد عناق الهودلي الأخير مع الأسرى، جاء البرغوثي إليه وعانقه وأوصاه بأن يزور والديه ويحدثهما عن ذكرياته معه، وقد فعل ذلك مع كل أسير يأتي لغرفته يمضي فترة حكمه ويغادر فيما هو يبقى داخل الأسر، الموقف يدغدغ مشاعر الهودلي من جديد: "يومها حبست تنهيدات الوجع بداخلي، وتأملت ملامح البرغوثي وكيف دخلت السجن حينها وكان قد أمضى 12 عامًا خلف القضبان، وأمضيت بالسجن نفس تلك المدة، حتى آخر يوم وكان نائل قد أمضى 24 عامًا وما زال خلف القضبان".

"التأمل في ذلك صعب جدًّا.. واليوم هو وصل إلى أكثر من 41 عامًا خلف القضبان وأنا خرجت قبل 17 عامًا وكبر أبنائي وهو على ذات الحال"، بهذا يسدل الهودلي الستار على حديثه.

وليد الهودلي-.jpg