فازت كتلة التغيير والإصلاح الممثلة لحركة حماس في الانتخابات التشريعية الثانية التي جرت عام 2006 فوزاً كاسحاً، فقد حصلت على نسبة 60% من مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني البالغة 132 مقعدا، أدى هذا الفوز بطبيعة الحال إلى وجود حالة من عدم الانسجام في قيادة المشروع الوطني الذي أصبح يمثل مشروعين متنافرين، فرئيس السلطة محمود عباس يتبنى مشروع التسوية السياسية خيارا وحيدا في مواجهة الاحتلال، أما حركة حماس التي أصبحت تسيطر على المجلس التشريعي فتتبنى خيار المقاومة المسلحة، بكل ما تعنيه المقاومة من انقلاب على مشروع التسوية السياسية، الذي يعتمد على التنسيق الأمني بين الاحتلال والسلطة، من أجل ضرب مقومات أي عمل فلسطيني مقاوم باعتباره إرهاباً.
غداة فوز حركة حماس بالانتخابات تداعى الجميع من أجل وضع قواسم مشتركة قد تجمع النقيضين، وتوافق المجموع الوطني على اعتماد وثيقة الأسرى أرضيةً مشتركةً للعمل السياسي الذي سيجمع بين مؤسستي الرئاسة والحكومة، اللتين تمثلان التيارين الفلسطينيين الأكبرين "فتح وحماس".
مما لا شك فيه أن فوز حركة حماس قيد كثيراً حركة أبي مازن السياسية، فلم يعد أبو مازن المتحكم والمتصرف الوحيد بالشأن الفلسطيني سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، فوجود مجلس تشريعي قوي انبثقت عنه حكومة برئاسة رئيس حركة حماس في غزة، جعل أبا مازن كرئيس للسلطة أحد قطبين، يفرض الواقع العملي عليه أن ينسق مع القطب الآخر، الذي يمثله إسماعيل هنية في كل ما هو مقدم عليه من تحركات سياسية على الصعيد الخارجي، أما على الصعيد الداخلي فكانت إدارة الجهاز الحكومي كلها مهمة حصرية للحكومة التي يرأسها هنية، باستثناء ما للرئيس من صلاحيات تنفيذية محدودة نص عليها القانون الأساسي.
خلال عام مر على تشكيل الحكومة العاشرة برئاسة هنية وتقيد حركة أبي مازن السياسية، لم يستطع هذا الائتلاف أن يتناغم أو يتساوق مع بعضه، فعلى صعيد الميدان الداخلي، كانت حركة فتح ما تزال لم تسلم بنتائج الانتخابات، وكان التواصل شبه مقطوع بين المستوى السياسي للعمل الحكومي الذي تمثله حركة حماس والمستوى الإداري " الدولة العميقة" الذي تمثله حركة فتح، أدى ذلك إلى تفاقم الأمور بشكل كبير حتى وصل حد الانقسام السياسي، الذي لم تفلح حكومة الوحدة الوطنية التي شكلت بعد اتفاق مكة في منعه.
بعد حدوث الانقسام تحلل أبو مازن عملياً من كل القيود التي فرضها عليه فوز حركة حماس، وأصبح يتحرك بحرية تامة وفقاً لما يدور في عقله وما يقدمه له مستشاروه من مقترحات، بمعزل عن أي إطار قيادي رسمي أو شرعي، وبذلك أقدم أبو مازن على توسيع نطاق التنسيق الأمني حتى جعل من الضفة أرضاً مستباحة بالكامل للاحتلال وقضى على كل فرصة لممارسة عمل مقاوم فيها.
أما على صعيد العمل السياسي فمارس أبو مازن عمله بكل حرية ودونما أي قيد، سواء من مؤسسات رسمية أو قوى فصائلية، ومرد ذلك إلى أن المؤسسة الرسمية التي يمكن أن يكون لها دور في مراقبة السلطة التنفيذية وهي المجلس التشريعي تم تهميشها إلى حد التعطيل، وأما القوى والفصائل، فانقسمت بين فصائل تنضوي تحت مظلة منظمة التحرير وغالبيتها فصائل صغيرة ليس لها أي تأثير في القرار السياسي، وكل همها هو الحصول على بعض من المخصصات المالية التي تحفظ لها بقاءها كاسم على خارطة العمل السياسي الفلسطيني، وأما القسم الآخر من الفصائل وهو ما عرف "بفصائل المقاومة" انعدم تأثيرها السياسي بواقع الانفصال والانقسام على المستويين الجغرافي والسياسي، فعلى المستوى الجغرافي وجود أبي مازن في الضفة التي يسيطر عليها الاحتلال من جهة وحكومته من جهة أخرى جعل من خلال التنسيق الأمني تأثير حركات المقاومة هناك منعدماً، وصنفت حركات المقاومة كحركات "محظورة" حتى على صعيد العمل الطلابي، وفي غزة أصبح تأثير حركات المقاومة معدوماً كذلك، بفعل الحصار السياسي والمالي والميداني الذي فرض عليها عقب الانقسام، وأصبح كل ما يمكن لها أن تقوم به مجرد إصدار بيانات شجب وإدانة للحظوات السياسية التي يقدم عليها أبو مازن، رغم أنها أثرت في مستقبل الشعب الفلسطيني إستراتيجياً.
هذا الواقع الذي تبلور جعل أبا مازن يمتلك القرار السياسي والمالي والأمني والإداري، وكذلك امتلك قوة التشريع التي سلبها من المجلس التشريعي الذي عطله، زاعماً أنه يمارس حقّه "كرئيس" استنادا لنص المادة (43) من القانون الأساسي، وهو ما يعرف "بتشريعات الضرورة" رغم انتهاء ولايته منذ عام 2009م.
خلال ثلاثة عشر عاماً من الانقسام شكل أبو مازن سبع حكومات دونما اعتبار لصلاحية المجلس التشريعي بمنح الثقة للحكومات المنصوص عليها في القانون الأساسي، وكذلك أصدر حوالي ثلاثمائة قانون، وأصدر مئات قرارات التعيين لموظفين كبار ورؤساء سلطات ومؤسسات.
لقد جعل الانقسام من أبي مازن "ملكا متوجا" من خلال الصلاحيات الهائلة التي امتلكها، لذلك أصبح مفهوم سبب التعطيل غير المبرر لكل محاولات رأب الصدع وتحقيق الوحدة الوطنية، فما الذي يجعل أبا مازن يتخلى عن كل هذه الصلاحيات؟ ليعود مرة أخرى مقيدا بتفاهمات مع شريك له في الحكم، مناقض له في التوجيهات والأفكار، ينازعه الصلاحيات والسلطات.
انفراد أبي مازن خلال فترة الثلاثة عشر عاماً بكل هذه الصلاحيات والسلطات (الهائلة)، كوّن حوله مجموعة من البطانة السيئة التي جمّلت له كل قبيح، وحسنت له سيئ، ومع مضي الوقت أصبحت هذه البطانة هي التي تتحكم في مستقبل ومصير الشعب الفلسطيني، ورغم ذلك ما زال الخطاب الذي يصدر عن هذه البطاقة يلصق بقوى المقاومة، تهم التشبث بالانقسام وإقامة دولة غزة الظلامية وما إلى ذلك من مصطلحات مل المواطن الفلسطيني سماعها.
بعد مضى ثلاثة عشر عاماً على هذه الحالة "غير المسبوقة" لا بد من وضع حد لهذا الاستفراد الذي يمارسه أبو مازن وبطانته، ومنعها من الالتفاف على المطلب الشعبي والفصائلي بإنهاء الانقسام، الذي توج أخيراً بإعادة العلاقات مع الاحتلال وعلى رأسها التنسيق الأمني، أملاً بغيوم قادمة من ناحية البيت الأبيض يظن أبو مازن أنها ستمطر في فلسطين.