قال أعرابي قديمًا: الأثر يدل على المسير، والبَعْرَة تدل على البعير، فسماء ذات أبراجٍ وأرضٌ ذات فجاج وبحارٌ ذات أمواج ألا تدل على السميع البصير؟! فكان جوابه القائم على الاستنباط العقلي البسيط، وعلى توجيهات الفطرة، إزراء بكل الفلسفات العقلية والكلامية التي أتعبت نفسها وأتعبت المتلقي في البحث عن أدلة وجود الله سبحانه. وإذا كان الدخان حين يرى من بعد دليلًا على وجود النار، فقد اختصرت العرب القصة فقالت: لا دخان بلا نار، وصار المثل يضرب في كل مناسبة مشابهة لمورده.
وحين تقول الصحف العبرية مثلًا وعن طريق التسريب المتعمد: إن لقاء قمة جمع نتنياهو وبومبيو بولي العهد محمد بن سلمان في نيوم مدينة ٢٠٣٠م، فإنه يمكننا أن نقول: إنه لا دخان دون نار، وإن وقوع اللقاء محتمل عقلًا دون فلسفة، كما دلت البعرة على البعير، والأثر على المسير، وإن صمت الأطراف رسميًّا عن تأكيد ما قالته الصحف أو نفيه، لا يغير من واقع أمر محتمل، دخانه كان قبل اليوم المحدد للزيارة، وأثره كان واضحًا في أبو ظبي، والمنامة والخرطوم، وفي الجامعة العربية أيضًا، فلماذا نشغل أنفسنا في فلسفة الإثبات والنفي؟ ويكفينا أن نستعير فطرة الأعرابي القديم ساكن الصحراء الذي لا يعرف عن الفلسفة والدبلوماسية شيئًا. ولو استعرنا فطرته لكفتنا.
كانت المبادرة العربية، سعودية المنشأ، ولما تقبلها رئيس المنظمة صارت مبادرة عربية، وكان هذا أول أثر عميق وبارز في صحراء التطبيع القائم على شرط انسحاب الاحتلال من الأرض العربية، وحين رفضت تل أبيب الشرط، لأنه كان يعني الأرض مقابل السلام، وقالت: إن طرح السلام مقابل السلام، والأرض موضوع للمفاوضات، ومرت السنون تلو السنين، وجرت مياه كثيرة تحت جسر المبادرة، حتى جاء ظرف اختراقها واحتراقها والقفز عنها عربيًّا، بوجود ترامب في البيت الأبيض، وبإعلانه عن صفقة القرن، وانسحابه من الملف الإيراني.
من كان خفيفًا في الوزن، وخفيفًا في الالتزام، قفز قفزة واسعة وصلت إلى تل أبيب، ومن كانت التزاماته ثقيلة لم يتمكن من القفز مسافة واسعة، دعم من كانت قفزته واسعة، وعليه فإن قفز نتنياهو ليلًا باتجاه معاكس إلى نيوم ممكن، لأنه يهدف لتذليل الخوف من ثقل الالتزامات، وبيان سياسة التعامل المشترك في مقاربات بايدن الآتي بعداوة لقائد المملكة.
لا داعي للاختلاف حول الحدث: هل حدث كما قالت التسريبات، أم لم يحدث؟! فإن غدًا لناظره قريب، والعجلة من الشيطان. فلسطين تحب المملكة وتقدر دورها وتتمنى أن تكون معلومات الصحف العبرية معلومات كاذبة، وربما ظلت المبادرة العربية هي الحد الأدنى في السياسة السعودية.