تبدو السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط على أبواب مرحلة جديدة بعد التصرفات والقرارات المندفعة التي طغت على إستراتيجية إدارة دونالد ترامب الشخص غريب الأطوار والذي أدهش الخبراء والمراقبين ووسائل الإعلام بسلوك غير مألوف خالف طباع وبروتوكولات وسياسات نظرائه السابقين.
فأكثر المراقبين يرى أننا على أعتاب التغيير القريب بسياسات أكثر اتزانا ومرونة وتقليدية لتصحيح الوضع السابق، عبر إلغاء كثير من القرارات الطائشة التي فرضها الرئيس السابق، ووضع استراتيجية مختلفة تتناسب مع المصالح الامريكية العليا في المنطقة والتحديات الراهنة.
ومن الطبيعي أن يحاول الرئيس الجديد السير بخطى مختلفة هذه المرة مع النظام الايراني، عبر فتح قنوات للتفاوض بشأن برنامجها النووي، وقد ظهر ذلك من خلال اعرابه بأنه ينوي العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي)، وأنه كذلك ينوي الانخراط دبلوماسيا مع طهران بشأن قضايا مختلفة، لكن هذه العودة ستكون مشروطة بوضع مشروعها تحت المجهر، ووقف تدخلاتها في سوريا واليمن ولبنان، وهذا يعني فرض شروطا اضافية للحوار.
بالإضافة إلى إعادة التواصل مع الفلسطينيين، رغم أن هذا التواصل لن يحمل تغييرا جذريا في هذا الملف خصوصا مع اعلانه صراحة بأنه لن يتراجع عن نقل السفارة الامريكية، لكن من النواحي التكتيكية قد يعيد بعض المساعدات الامريكية للفلسطينيين والتي تستهدف دعم وتمتين موقف السلطة ومؤسساتها، والسماح بفتح مقر البعثة الفلسطينية في واشنطن، واحياء فكرة حل الدولتين من جديد، الامر الذي سينعكس ايجابا ويظهر نوعا من الارتياح لدى معظم الحكومات الاوروبية والتي تتبنى هذه الفكرة وتأمل في نجاحها.
وفي ذات الوقت فإن الدولة الفلسطينية لن يسطع بريقها ولن تعانق النور في عهد بايدن، فالرئيس الجديد مواقفه معلنة وصريحة بأنه صديق وفي لـ(إسرائيل)، وأن أبرز أولوياته رعاية المصالح الإسرائيلية، وعدم تعريضها للمخاطر، فهو يعتقد أن حل الدولتين الحل الأمثل لإنهاء الصراع لكن من الطبيعي أنه لن يتخذ خطوات عملية لترسيخ هذا الحل.
واذا ما تحدثنا بواقعية في ملف التطبيع فإن بايدن سيتابع هذا المسار على اعتبار أن ذلك يؤمن "إسرائيل"، ويزيد من اتساع بقعة حلفائها، ويكبح جماح قوى الشر والتطرف في المنطقة بحسب اعتقادهم، ويعزز فرص السلام ويشجع "إسرائيل" لاحقا على تقديم تنازلات للفلسطينيين، ويضمن فرض السياسات الأمريكية الرامية إلى تعزيز قدرة "إسرائيل" كحليف استراتيجي.
وقد ظهر ذلك من خلال تأييد بايدن لهذا التوجه هو وفريق الحزب الديمقراطي والذي لا يختلف مع الحزب الجمهوري في هذه المرتكزات التي تضمن المصالح الامريكية الاسرائيلية، وتضعف عزيمة العرب، وتقلل من فرص اندلاع صراع مستقبلي مع "اسرائيل".
وفي ملف حقوق الانسان فإن بايدن سيمارس ابتزازا ملحوظا على بعض الانظمة في المنطقة، بما فيها السعودية بوسائله الناعمة، لإرهابها واجبارها على الرضوخ الدائم لتوجيهات إدارته، فهو غير معني بتغيير أي من الانظمة في ظل سعي هذه الانظمة للتعاون والتطبيع مع "إسرائيل"، واستعدادها لتجديد (عقد العبودية)، مع اظهاره حدا معقولا من الاخلاقية والمثالية، كونه يتربع على رأس النظام العالمي ويسوق نفسه مجددا للسياسات وراعيا لحقوق الانسان.
لكن من المرجح أن دولا ستشعر بالعزلة والخيبة نتيجة فقد الحضن الترامبي الحار، لتجد نفسها أمام زعيم بجلد جديد قد تكون نعومته أكثر فتكا وضررا من هوجائية ترامب الفضائحية، ويبدو أنه سيحاول انهاء الحرب على اليمن، ووقف تدفق السلاح للسعودية، وسيخفض حجم الدعم السياسي الذي يوفره ترامب لسياسات المملكة، ولأنظمة أخرى ووصفها بالدكتاتورية، كون بايدن أشار إلى أنه سيعيد النظر في عمليات بيع الأسلحة للسعودية كيلا تستعملها في اليمن.
وهذا يتطلب من الفلسطينيين عدم التعويل على التغير الحاصل في السياسات الامريكية، لان الناظم في ذلك أولا هو رعاية وحماية المصالح الامريكية، وتثبيت المصالح الاسرائيلية، وتعزيز دورها ومكانتها كحليف، دون مراعاة حقوق وتطلعات وآمال شعبنا في الحرية والاستقلال، لذلك فليسارع الفلسطينيون الى تغيير قناعاتهم وطريقة تفكيرهم، وليراهنوا على وحدتهم وسواعدهم كي يقتلعوا الاحتلال ويستعيدوا مجدهم وعزهم إن أرادوا.