فلسطين أون لاين

أحمد صباح.. "محارب الظل" لم تُبعده الإصابة عن "ميدان التقصي"

...
غزة- يحيى اليعقوبي:

الصوتُ مُختنق وكأنَّ حبلاً ملتفا عليه، "نخزات" مفاصله مثل مطرقة تدقُّ مسمار الألم في جسده، ناصيته تتصبب عرقًا وكأنه يجلس قرب موقد مشتعل؛ أولاده وزوجته يتشابهون معه بالأعراض أو يفوقونه شدة، ملقون بقربه على أسرَّة الحجر فقد تسلل فيروس كورونا إلى أجسادهم جميعًا.

"أشبه بحالة حرب يخوضها"؛ هذا في قرارة نفسه، فلا "وقت للراحة"، ولا السكون، ولا لرفع راية الاستسلام ومغادرة الميدان، يجلس منهمكًا على حاسوبه الشخصي وهاتفه المحمول، يتابع الخارطة الوبائية، يتصل بالمصابين ويحصي أعداد المخالطين ويعد كشفًا يوميًا، فلم يترك "المحارب" أحمد صباح (ملازم بالمباحث الطبية بشمال القطاع) ميدان "التقصي"، التصق به فيروس كورونا بداية نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 فظل يطارده ويلاحقه عن بعد، من داخل غرفته بمركز الحجر.

تتمثل مهمته، بإحصاء مخالطي المصابين وحصر أعدادهم، وإعطاء التوجيهات لهم، والمحافظة "قدر الإمكان" على عدم انتشار الفيروس، ومساعدة الطب الوقائي في تسهيل حركتهم وسلامتهم، والتنسيق لهم عبر حواجز الأجهزة الأمنية، وتحديد منازل المصابين لهم وفق خارطة توضح توزيع وانتشار المخالطين تتضمن كل المعلومات التفصيلية.

"نداء واستنفار"

مع نهاية أغسطس/آب، ومنذ الإعلان عن فرض حظر تجوال وفصل محافظات القطاع عن بعضها، لبى الملازم أحمد نداء الواجب، وبدأت رحلته "الشاقة" في ميدان جديد ومعركة لم يخضها من قبل.

تحط رحال صوته مع صحيفة "فلسطين" عند تلك اللحظة: "حدث استنفار في صفوف عناصرنا، وكلفت بالعمل في المستشفى "الإندونيسي" ضمن طواقم لجنة التقصي، ومذ تلك اللحظة أخذت قرارًا بالبقاء داخل المشفى وعدم العودة للبيت".

من هنا انطلقت مهمته، يجول مع فرق الطب الوقائي بين منازل المصابين، يمسك خريطة المخالطين بيده، يطارد الفيروس في بلدة بيت حانون التي انتشر فيها الفيروس؛ "بدأنا العمل وأمامنا صعوبة كبيرة، كل يوم تظهر إصابات جديدة، وبدأ الأمر داخل المشفى نفسه"، صاحب ذلك حالة خوف شديدة انتشرت في صفوف الطواقم الطبية والمرضى.

فرض الأمر مهمة إضافية على فريق "المباحث الطبية": "قعدنا نرفع معنوياتهم، ونشجعهم".

يتوقف صوته هنا: "تخيل أنك تجلس مع شخص من ذلك الطاقم وهو بقرب مجموعة أشخاص، فجأة تنزل عليه رسالة نصية مثل صاعقة تجمدت معها ملامحه حينما علم أنه مصاب بفيروس كرورنا، أو يأتي المشرف ليخبر شخصا منهم أنه مصاب ويطلب منهم تجهيز نفسه للذهاب للحجر".

كلف الملازم أحمد بمنطقة بيت حانون وبيت لاهيا وأجزاء من جباليا، فكان أمام مهمة شاقة لكثرة عدد المصابين فيها، تطرق تلك المشاهد باب ذاكرته "كنا ندخل البيت الواحد فنجد 30 مصابًا بالفيروس، فأنت أمام عمل شاق وصعب، تخيل عدد المخالطين أمامك، خاصة أن تفكير المجتمع واستيعابهم لخطورة الأمر يختلفان من شخص لآخر، هناك من يتهربون".

رغم ذلك عمل على قدم وساق، بجدول ممتلئ من الصباح حتى المساء، ثم يعود يجر عينيه الذابلتين من شدة النعاس معه، ما لبث أن ألقى نفسه على وسادته، تزوره في نومه مشاهد حدثت معه.

لكن قسوة هذا المشهد لم يفر من حديثه: "دخلت منزلا لوالدين مصابين نقلا لمراكز الحجر، لإحصاء المخالطين، لكن تفاجأت بأربعة أطفال أمامي تبلغ أعمارهم 7-13 عامًا، واحد منهم ذكر فقط".

وكأنه يرى المشهد أمام عينيه من جديد، تنهد قبل أن يواصل: "بكوا وهم يسألون عن والديهم .. أطفال صغار بالبيت وحدهم، مشهد جعلني أستوقف وأفكر به كثيرا، لكن طبيعة عملي تتطلب تأدية مهمتي، ولم أملك سوى التهوين عليهم وبث روح الأمل والتفاؤل فيهم وأنهم كبار ويستطيعون تحمل المسؤولية".

إصابة وأعراض

الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني، تغير مسار عمله، فقد نجح الفيروس في الولوج إلى منزلهم، وكانت البداية من والدته: "شعرت بألم وكونها تعاني أمراضا مزمنة، فنقلتها للمشفى (...) استبعدت إصابتها بالفيروس، لكن ظهرت نتيجة فحصها إيجابية (مصابة)، وفي اليوم التالي أجرينا فحوصات أظهرت إصابة تسعة أفراد من العائلة بالفيروس، بينهم أنا وزوجتي وأطفالي الخمسة وأختي التي ولدت حديثا ولحسن حظها أن رضيعها لم يصب بالفيروس".

في غرفته بفندق الحجر، لم تمر الأيام الثمانية عادية، بحة صوته وكأنها تخرج من قاع بئر عبر خط الهاتف تلخص المشهد "مرت الأيام شديدة، ابني بكر ( 10 أعوام) ظل يومين يعاني ارتفاعا شديدا بدرجة الحرارة، ملقى على الفراش، لم يأكل أو يشرب لثلاثة أيام لفرط ارتفاع الحرارة، زوجتي التي تعاني مشاكل صحية بالرئتين، لا زالت الأعراض تسيطر عليها، هزال، وكحة وصداع شديدان".

"في بداية إصابتي لم أستطع الحديث، من شدة الوجع بالمفاصل" .. ورغم ذلك ظل على رأس عمله: "يوميا، أعد كشفا لخرائط المخالطين، وهذا يتطلب جهدا وتركيزا كبيرين، رغم ما أعاني من ظروف حجر".

يجمع الملازم أحمد خريطته، بعد اتصاله بالمصابين وأخذ بيانات المخالطين منهم، من ثم يبحث عبر السجلات لديه حول "السجل المدني"، ورصد بيانات وعناوين وأرقام هواتف كل مخالط، ومن ثم إرسال الكشف للجنة التقصي.

يردف: "نحن أربعة أشخاص، نقسم محافظة الشمال بيننا كل منا يتولى جمع البيانات عن منطقة معينة، ثم نعطي كل مصاب خريطة للأشخاص الذين خالطهم وأحيانا تصل أعداد المخالطين إلى 30 شخصًا وهذا يسبب عبئا كبيرا علينا".

لكن لم يخلُ الأمر من الصعوبات "في البداية واجهت مشاكل ضعف الانترنت، والصداع الذي ألمَّ بجسدي، لكني كنت أتحامل على المرض (...) المهمة الملقاة على عاتقي كانت تعطيني شحنات إضافية للمحافظة على أرواح الناس وحياتهم، وأن أبقى مستمرًا في العمل".

في الصورة ثمة شخص يرتدي غطاء يتحالف لونها مع السماء، يصول ويجول، و"يلف ويدور" بين زقاق مخيم جباليا، أو شوارع بيت لاهيا، وبيت حانون، يسير في بؤر تفشي الفيروس مثل الذي يسير بين حقل ألغام، يلاحق عدوا خفيا، كشبح ينتقل من منزل إلى آخر، فيلاحقه حيثما ذهب وأينما ظهر أثره، يحاصره، يطارده، حتى دفع ثمنًا لأجل ذلك.