فلسطين أون لاين

تغذي منحوتاته مشاهد علقت بذاكرته من "أيام زمان"

"بسام الحجار" .. فنان يسافر بالفخار "الصامت" إلى "حياة الأجداد"

...
غزة- يحيى اليعقوبي:

للصمت لغة؛ تلك الحجارة أيضًا تتكلم، تنطق بجمالية التاريخ، وتعزف لحنها على أوتار الماضي، وكأنَّها نغم تذكر الناظر إلى سحرها بعاداته وطقوسه، و"وطنه المسلوب"؛ تذكره بيافا وعكا وحيفا ...، صوت مرور شفرات الحديد التي تتعارك مع "الطينة البيضاء" يحمل معه نفحات أمل تسد ظمأنا للقاء، تشعر بنسائم "العودة" تتسرب منها.

بأنامله التي تستوحي أفكارها من "حياة الأجداد"؛ ينحت الفنان بسام الحجار الذي طرق السادسة والستين عامًا من عمره، على قوارير الصلصال الفخارية، أشكالًا تحاكي التراث الفلسطيني على طريقة الرومان، ليحول الفخار "الصامت" إلى لوحات فنية تسافر بك إلى حكاية "أيام زمان" والعصور القديمة.

مع نفحات أجواء تشرين الباردة؛ في الأعلى السماء ملبدة بالغيوم، وأصوات زخات المطر تضيف سحرًا آخر وهي تتسابق في ملامسة الأرض، الهواء ينفذ من فتحات جدران متحفه الصغير بمنزله في منطقة الصفطاوي شمال مدينة غزة، كذلك خيط شعاع الشمس تسلل بهدوء من النافذة ولامس إحدى الفخاريات، مشهد "يزيد سحر اللوحات"، معه يشرق حلمٌ جديد لا غروب فيه في قلب هذا الفنان بأن "يحتضن مقتنياته متحف أكبر".

الحجار فنان يكسو اللون الأبيض ما تبقى من شعره، ترسم تعرجات وجهه حكاية عمرها ثلاثون عامًا في مهنة النحت، ينسج بخياله إبداعه قبل أن يحوله إلى واقع بأشكال فريدة، بين شقوق يديه والشقوق التي تزين الفخاريات حكاية عشق وارتباط متجذرة بأصالة القضية الفلسطينية.

تذكرة سفر

عليك أن تأخذ تذكرة سفر إلى الماضي والعصور القديمة، وأن تتجول بين المقتنيات بصحبة العم الحجار، فتمر بمنحوتة لسيف إسلامي من عهد صلاح الدين، وأشكال بيضاوية مثل الكرات على كل واحدة نقش رسمة تراثية، هنا فتاة تجلس على بئر مياه أسفل شجرة خلفها رجل ينزل حبلًا يملأ دلوه بالماء، ونقش آخر لقبة الصخرة، إلى الأمام كرة بيضاوية منقوش عليها قوارير وبحر يشابه جمال يافا، وحصان، ورجل يبذر القمح.

فتاة تحمل منجلًا بيدها وهي تذهب إلى "الحصيدة" لكن شوكة وخزتها من قدمها فرفعتها لتزيل الشوكة، تجمد المشهد هنا، بجوارها فتاة خطف الريح منديلها فما زالت تحاول إعادته.

صاحب العقود الستة من عمره عاصر مراحل مختلفة من حياة الشعب الفلسطيني، وعاش السنوات الأولى للتهجير، وهي ما تغذي خيالاته بمشاهد احتفظت بها ذاكرته، ووثقها على الفخار مثل العهود القديمة التي كانت تنحت على جدران الحائط.

في المشهد سيدة تحمل آنية فخار على رأسها بشكل مائل وآيل للسقوط، "زمان كانت تتباهى المرأة بأنوثتها وهي حاملة الجرة على جانب معين وآيل للسقوط، فتمشي بثقة" يعلق على تلك اللوحة الصامتة حينما توقف أمامها، ثم يشير بيديه نحو منحوتات أخرى قائلًا لصحيفة "فلسطين": "اللوحات تفسر نفسها، فهذا الفن هو إثبات لحق الشعب الفلسطيني والحفاظ على الوطن من الضياع، تحمل اللوحات بعدًا فنيًّا واجتماعيًّا".

بركن في زاوية المتحف الصغير تلحظ كومة رمل صغيرة، بجوارها دلو ماء، وأسمنت أبيض (شيد)، وسلك حديدي مرن، وأكياس "خيش"، من هذا الخليط المستخدم للبناء، يبني الفنان الحجار إبداعه.

يكور الأسلاك ويغلفها بالخيش، ثم يطليها بالأسمنت الأبيض وينقش عليها ما يجول بخياله، "طريقة عملي فنانًا: أقرأ عن نابليون بونابرت وكيف حاصر عكا، فأجسد لوحة تحكي عن ذلك، أو فتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح ومحاصرة آيا صوفيا، أو أستحضر شيئًا من الخيال أو مما علق بالذاكرة من حياة أجدادنا".

"قد تأخذ المنحوتة الواحدة معي خمسة أيام، أو عشرة، أو شهرًا، حسب حجمها وتفاصيلها"، لكنه يرى أن الفنان الناجح "إذا اعتاد النقل يصبح ضعيفًا"، فحينما تخالجه فكرة يطبقها حتى بلا خطوط رسم.

لوحات زيت

بألوان الزيت رسم الحجار عشرات اللوحات التي تحكي عن التراث الفلسطيني، يقف على نوافذ الذاكرة تعلو ملامحه ابتسامة مشرقة: "كنت أرسم بألواح الزيت، لكن بعد ذلك وجدتني مضطرًّا إلى التجديد، والنحت على الفخار والجداريات (...) أستطيع إقامة متحف كبير، لكن أحتاج إلى الدعم المحلي".

"أتدري؟؛ نحتت لوحات أثرية مثلًا لجندي كنعاني قبل ثلاثة آلاف سنة، والآن موجودة ببريطانيا" ترسم تعابير وجهه "الخيبة" وتغشاه أمواج الحزن، فمع مرور كل هذه الأعوام لم يجد من يحتضن إبداعاته سوى بعض المتاحف الخارجية، ومتحف محلي وحيد تابع للجامعة الإسلامية، لكن لا يزال الأمل يروي حلمه بأن يكون له متحف خاص "يليق بفنه".

تملأ أحد جدران المتحف منحوتة كبيرة، في الصورة جو ريفي، لسيدة تجلس على بئر تتسامر هي وصديقتها التي تنزل دلوًا، وأسفل الشجرة القريبة منهما تجلس امرأة وحيدة منشغلة بالغزل، خلفها من مسافة قريبة رجل يرعى خرافًا، يزين المشهد جمال البيوت الريفية القديمة وأشجار النخيل.

يقابلها برواز على جدار آخر، يضم مشكاة المماليك (مصباح إضاءة)، وخنجرًا، وسيفين، على الجدار الثالث تقف سيدة تحمل بين ذراعيها سلة وكأنها تحتضنها، أسفل منها تجلس سيدة ترمي حبوب القمح على "الجرن الدائري" وهو يدور بين يديها، لكنها كانت صورة جامدة، والمشهد يتحرك في خيالك.

"اللوحات الكبيرة يستغرق مني العمل فيها عدة أسابيع، أحيانًا من الصباح إلى المساء يوميًّا، أرسم عشوائيًّا دون نقل عن لوحات، فقط أتخيل الفكرة ثم أبدأ رمي كتل الطين على الحائط ونحت الأشكال" يضع نقطة النهاية في حديثه عن الجهد المبذول.

الفن هذا "نادر"؛ فرؤية هذا الفنان أنه سلك طريقًا مختلفًا عن النمط السائد بالرسم على اللوحات، فكان من "الأوائل في النحت على الفخار، وعمل كرات بيضاوية، وأعمدة مستطيلة نوعًا ما وجداريات مستوحاة من التراث والعصور القديمة".

لدى الحجار ركن خاص بمتحف الجامعة الإسلامية، يضم فخار وجداريات، تروي قصة حصار عكا، والعملة العباسية، والأموية، وسيف علي بن أبي طالب، وختم عبد الملك بن مروان، وغيرها من الأشياء، "كانت تواجهني صعوبة في تقبل الفكرة، لكن الناس أصبحت أوعى، وعرفت أني أنحت من أجل التراث فقط".

عن مدى إقبال الناس عليها، فرد كفيه مستعرضًا الواقع: "أغلبهم يطلبون منحوتات تحاكي الطبيعة، أو نهر "العوجا"، والبلدان التي هجروا منها، ليحيوا تجذرهم بها".

على سقف المتحف نقش زخارف إسلامية بيده، في زاوية أخرى تلحظ قوقعة بحرية، يحاول شخص الخروج منها، نصف جسده فقط ظاهر؛ والنصف الآخر داخل السجن الذي يقيده، وفي غرفة مجاورة تجد عشرات اللوحات الملونة بألوان الزيت، تمر بواحدة لنساء يحملن قوارير فخار، وخيول وفرسان يحملون علم فلسطين يحاولون كسر سياج الاحتلال.

ماذا يمثل لك هذا الفن؟، يسرح بنظرة دارت وجالت بالمنحوتات، وعلت ملامحه نظرة أخرى متأملة: "إني أعتز بديني ووطني، وكوني لاجئًا من المجدل، أحب التراث هذا، نعم، الفن هو الإنارة وكل شيء في حياتي".