فلسطين أون لاين

من "رحلة" إلى "تحفظ" تغرق في "ثنايا بحرية"

أمل الكحلوت.. فنانة "أنطقت الجماد" بـ"رسائل حيَّة"

...
الفنانة التشكيلية أمل الكحلوت
غزة- يحيى اليعقوبي:

الصمت هو المحاولة الأخيرة التي لم يفهموها حينما كنا نتكلم!". "

تتلامس أصابعها مع الطين لتسافر إلى عالم آخر "لا تستطيع وصفه"، عالم أعمق في التعبير عما يجول في خاطرها، فهو بمنزلة "السهل الصعب" في الوقت نفسه، تبحث الفنانة أمل الكحلوت عن شغفها بين ألواح الجبس والخشب، لتحول الجماد إلى لوحات فنية تتداخل تفاصيلها مع أفكارها ووجدانها، فتنطق برسائل حية.

من واقع معيش فيه من الحزن والغصات والآلام الكثير يبقى الأمل والتفاؤل بغد أفضل هو الهدف، مجموعة من اللوحات المجسمة النحتية ولوحات تصوير تحاول فيها برؤيتها تحسس نبض المجتمع بكل ما فيه من وجع ومشكلات يومية في كل المجالات، تعبر فيها عن الحالة الإنسانية التي نخاطب بها العالم لينظر إلى ما نعانيه.

في ركن بمنزلها بمدينة دير البلح وسط قطاع غزة، ما زالت أمل منذ الصباح تمرر رأسًا مسننًا يشبه السكين على مكعب الجبس، تغوص في أدق الحواف، وتقشط بعض الجوانب، ثم تحفر فيه بحرفية عالية على أدق التفاصيل، وبعد عدة ساعات من العمل المتواصل، أخيرًا استطاعت أخذ قسط من الراحة؛ وأزاحت الستار عن نصب تذكاري تظهر فيه انسيابية وانحناءات تشبه أمواج البحر ، فاستحق اسم "ثنايا بحرية".

تعيد رسم المشهد لصحيفة "فلسطين" لكن هذه المرة بصوتها: "(ثنايا بحرية) نصب تذكاري مصغر، صنعته مقترحًا لوضعه في مكان قريب من البحر، فهو يمثل الأمواج في حركاتها وتلاطمها كأنها فتيات يلعبن ويلهون فرحًا".

مظهر لسيدة بأدق التفاصيل، تجلس وحيدة شاردة الذهن مع نفسها، كان ختام معترك نحت خاضته أمل استمرت فيه عدة ساعات، حتى خرجت معالم السيدة بهذا الإتقان، "أسمته "تحفظ"؛ فهو بمنزلة التمكن من الذات في الحرص للتعبير عن ذاتها لنفسها والاحتفاظ بما يدور في داخلها من صراعات".

"رسائل مشفرة"

هي "الرحلة" التي بدأت رغمًا عنها، فـ"أصبحت ليس لها بداية ولا نهاية، ولم تكن في الحسبان"، تسحبنا في رحلتها بين المجسمات، على وقع شكل آخر من إبداعاتها، لمجسم تغوص في تفسير تفاصيله التي تركت "مشفرة" اختفت فيه الملامح والمعالم ليصبح شيئًا غير واضح، وأسمته "الرحلة".

أما هنا فجسدت "التسول" على هيئة سيدة تمد يدها، وهو "يحاكي واقعًا يئسنا منه"، وفق تعبيرها.

وأنت تمر بين مجسماتها أو لوحاتها التشكيلية، أو تلك الممزوجة بين النحت والرسم في آن واحد، ستقف حائرًا في التعبير عما تراه من أشكال متداخلة غير مفهومة، لكن ستبقى نظراتك أسيرة في بحر هذا الجمال، فتخوض معتركًا داخليًّا مع نفسك كما خاضته أمل، تحاول بصعوبة تفسير الأشكال، لتجد أن بعضها يعبر عن التضامن، أو المواساة، والأحمال الشاقة، أو وصف معاناة الشعب الفلسطيني.

هنا فتى يمسك سياجًا حديديًّا وكأنه قد كسر واحدًا، ينظر إلى المستقبل، أو هذا الشيخ الذي ترسم تعرجات وجهه ولون لحيته التي يتخالط فيها الأبيض والأسود حكاية الشعب الفلسطيني المجسد بخلفية بألوان علم فلسطين، أما هنا فتجد راحة يد تحمل ملامح أشخاص ينظرون إلى آخرين مقيدين خلف سياج، تعبر عن التعاطف مع قضية الأسرى بمنحوتة جميلة جسدت فيها أمل واقع الأسرى.

صعوبات ونجاح

لكن لا يخلو الأمر من الصعوبات: "تكمن هذه الصعوبات في معوقات التنقل والحركة، وصعوبة في نقل هذه الأعمال خارج غزة، وقلة في المواد المراد استخدامها لتنفيذ العمل في كثير من الأحيان".

النحت أحد مجالات التربية الفنية، فيه "تجسيد أفكار معينة" وتطبيقها على أرض الواقع إلى مجسمات ثلاثية الأبعاد، كتمثال لإنسان أو حيوان، ويمكن عمل ذلك باستخدام الكثير من المواد إما بالشمع أو الطين أو الجبس أو الصخور.

ولا تقتصر الأدوات على شيء معين، "إنما يمكن النحت على الكثير من المواد كالجبس مثلًا والخشب والصخور، باستخدام أدوات خاصة لكل مادة، منها الأزاميل، وهي تتوافر برؤوس مختلفة"، كما تقول.

تشرح أمل كيف تحولت تلك الأدوات الحادة إلى طائعة لها: "استخدمت السكاكين ذات الرؤوس المختلفة في النحت ونقش التفاصيل الصغيرة، واستخدمت في النحت الأجسام القليلة الصلابة كالصلصال والجير والجبس والخشب، إضافة إلى المبارد المختلفة بالنوع والحجم والشكل لرسم النقوش المختلفة في التماثيل والأجسام".

لم تتصور أن يكون ذلك اليوم الذي غاصت فيه بالطين سيمثل ولادة حكاية عشق مع الطين، لتعيد الكرة للهو واللعب وهي تبللها بالمياه، وتصنع أشكالًا بيدها، ثم أصبحت هواية وفنًّا.

ماذا يمثل النحت لك؟، تجيب: "يطلق العنان للأفكار المتزاحمة للتعبير عن واقع متناقض بين الحياة واللا حياة".

"كل منحوتة تحمل في جنباتها قصة، وكلٌّ منها تعبر عن واقع وكل واقع يعبر عن مدة زمنية حدثت فيها القصة"، فجسدت معاناة المرأة الفلسطينية التي تمثل القضية بجميع جوانبها إذ "تعد المرأة هي فلسطين بمعاناتها عبر التاريخ؛ فهي الزوجة والأم والأخت لكل شهيد وأسير".

أمل تخرجت في اختصاص التربية الفنية بتقدير امتياز، شاركت في العديد من المعارض الفنية الجماعية في داخل القطاع وخارجه، أقامت معرضها الشخصي بعنوان (لي ولين) الذي جمع بين المتناقضات الحياتية، ما بين المعيقات والقدرة على التغلب عليها، شاركت في معارض دولية عديدة، من أبرزها مهرجان فلسطين الدولي الخامس بعنوان "العودة" في الأردن.

حصلت على العديد من شهادات التقدير في مجال النحت والتصوير ، والمرتبة الأولى في مجال "فن النحت" منحتها إياها مؤسسة بيت الصحافة في 2015م، والمرتبة الثانية في مسابقة "لا للعنف"، التي نظمتها جمعية الثقافة والفكر الحر في 2017م.

عن رسالة منحوتاتها، كانت كلماتها مختلطة بكومة مشاعر تجمعت في إجابة واحدة: "أحاول إيصال فكرة ومضمون ومعاناة وفرح وألم وفراق، وفكرة إلى المشاهد".

لم يكن صعبًا أن تمزج بين النحت والرسم، ففي نظرها "النحات رسام تصويري"، يدرس تفاصيل الأشياء ويحولها إلى لوحة جميلة.

أمنية أمل أن تصل أعمالها النحتية إلى الخارج وتتحرر من سياج الحصار، لتوصل معاناة الشعب الفلسطيني وأننا "نحب الحياة".