تراجعت على نحو ملاحظ فعاليات التوافق بين حركتي فتح وحماس في الأيام الأخيرة، على عكس الحماس الذي بدأ به تحت ضغط المتغيرات الأخيرة، وفي مقدمتها التطبيع العربي.
تحدثت الحركتان، في ختام المشاورات التي عقدت أخيرًا بمدينة إسطنبول، عن رؤية متفق عليها بين الوفدين، أنضجت، تخضع للحوار الوطني الشامل، ويبدأ بعد الأول من أكتوبر المسار العملي والتطبيقي لها، لكن الطقس تبدّل واختلف التوقيت، وجدّ الفلسطينيون الزيتون وعصروه، ثم حلّ نوفمبر دون تقدّم يمكن أن نعده مختلفًا عن محطات سابقة للتوافق، أو يمنح جُرعة أمل لمواطن هزمه الانتظار.
وبديلًا عن ذلك، بدأنا نستمع إلى حوار من نمط جديد لم يتنصل منه أحد، استدعى تفضيل نشر تسريبات حركية، عن قصد أو بغير قصد، على التصريح الرسمي بمضامينها.
استمعنا في الأيام الأخيرة إلى تسريبين، أحدهما لنائب رئيس حركة حماس الشيخ صالح العاروري يتحدث فيه بصراحة مفرطة عن الحوار مع فتح ومتطلبات التوافق واعترافات أخرى لم ترُقْ فتح ومسؤوليها، ثم صدر بعدها بأيام ما يشبه الردّ على شكل تسريب لمكالمة هاتفية بين عضوي اللجنة المركزية لفتح روحي فتوح وتوفيق الطيراوي، يدّعيان فيه عدم وجود إجماع داخل قيادة حماس في مسألة المصالحة.
لم تحتَج هذه التسريبات إلى قدرات الطرفين لفحصها والتدقيق فيها، وقد بدت مضامينها ذات قيمة أكبر لدى الجمهور، الذي تعامل معها على أنها اعترافات يصحّ إفشاؤها.
تعامل الجمهور مع هذه التسريبات على أنها الوجه الحقيقي للتقارب القائم حاليًّا، وهذا فيه اتهام بأن حوار القنصليات هو مجرد خداع، عزّزه عدم تحقيق خطوات فعلية إلى الآن، بعدما ارتفعت حرارة الحديث إلى درجة إعلان خوض الانتخابات ضمن قائمة مشتركة.
وغالبًا، إن هذه التسريبات أربكت مسار الحوار، وهذا ما يعزز الشكوك بأنها غير بريئة البتة، إذا ما علمنا أنها أسلوب يلجأ إليه المعارضون السياسيون، لذا هي إما تؤشر على تقارب حقيقي بدأ يهدد مصالح من يعتاش على الانقسام، أو أنها تعبير حقيقي عن مأزق.
المتغيرات الخارجية الحاصلة اليوم قد لا يصلح معها المصارحة السياسية؛ فلا يوجد معنى لإعلان تعثّر الوحدة الداخلية في وقت يزيد فيه تقارب الأنظمة العربية مع الاحتلال، بل من الصواب اتباع سياسة النفس الطويل، وإدراك أن غاية السياسة تحقيق الممكن.
لكن يجب أن يكون ذلك مشروطًا بأمرين على عجلٍ: الأول ضبط هذه التسريبات ووقفها، لأنني لا أتوقع ألا تتكرر، وتجديد النيات الصادقة أمام الرأي العام، والثاني تقديم ما يزيل اعتقادًا سائدًا بأن مصير هذا التقارب يرتبط بما تفرزه نتائج الانتخابات الأمريكية.
تحركت حماس بهذا الاتجاه سريعًا، عبر رسالة أرسلها قائد الحركة في قطاع غزة يحيى السنوار إلى خمسة آلاف من الشخصيات العامة والوجهاء والمخاتير ورموز المجتمع المدني والكوادر النسوية البارزة والكتاب والمثقفين، أكد فيها أن موقف حركته من الوحدة الوطنية ينطلق من رؤيتها الثابتة بضرورة توحيد البيت الفلسطيني، وأنها تعد تحقيقها هدفًا إستراتيجيًّا لم تألُ جهدًا في سبيل إنجازه، وأن المرحلة المقبلة ستشهد مزيدًا من اللقاءات على المستوى الوطني للبناء على ما تحقق في المسارات المختلفة، وهو ما يتطلب تضافر الجهود الوطنية والشعبية كافة.
وهذا يمثل ردًّا كافيًا على الادعاء الذي ساقه الطيراوي، في التسريب الصوتي، أن قيادة حماس في غزة لا تريد المصالحة بعكس قيادة الضفة التي تحتاج لها لاستجماع نفسها، رغم أن غزة بمعياره قد تكون الأكثر حاجة لها حقيقة في تخفيف أعباء الحكم.
هذه التسريبات، التي تحاول صناعة جمهور جلّاد ضد المصلحة العامة، كشفت عن انقسامات داخل الانقسام الفلسطيني، تُنبّه إلى أن العلاج لا ينبغي أن يبدأ بالمرض، بل أسبابه.