فلسطين أون لاين

الأرض فتحت ذراعها لطموحهن قبل أن "تئده البطالة"

في غزة.. 3 خريجات زرعن حلمهن "المر" في "حقل الرجال"

...
تصوير رمضان الأغا
غزة- يحيى اليعقوبي:

تحبو كل واحدة منهن كطفل على الخطوط الطينية، تغرس يدها بالأرض؛ فتسقط بهدوء حبة البازيلاء ثم تغمرها بالطين برفق، تتقدم خطوة للأمام وتعيد نفس الكرة، يتسابقن مع الزمن؛ فصاحبات "الأيدي الناعمة" الثلاث اعتدن القلم والدراسة الجامعية، لا العمل بحقل هو "صعب على الرجال"، كما يصفن، يتصبب العرق من ناصيتهن؛ تحت لهيب شمس خزاعة جنوب قطاع غزة.

عند اقتراب رحيل الشمس وإخفائها لملامحها وراء ستار الليل، انتهى اليوم الثاني لعمل أسيل النجار، وغيداء قديح، وندين أبو روك، تاركة إياهن يغرقن في حلمهن الجديد، ثلاث خريجات بحثن طويلًا عن عمل بعد تطوع في أروقة المؤسسات والمبادرات، بقيت "الأبواب مغلقة" إلا الأرض التي فتحت ذراعها إليهن تحتضن حلمهن قبل أن تئده "البطالة"، فاستأجرن أرضًا لزراعة البازيلاء وتوفير دخل لهن ولأسرهن.

بعد يوم عمل شاق تمشي أسيل وصديقاتها منهكة بقدمين ثقيلتين كالحجارة وعينين مسدولتين بستار النعاس، حتى وصلت إلى البيت ورمت نفسها على السرير وغاصت في النوم، تغفو على حلم "مر" أجبرتها الظروف عليه، ستكمله باليوم التالي.

قبلها بيوم، حرثت الفتيات الثلاث الأرض، أجبرتهن الظروف على جر حصان يتبعه محراث، وهن اللواتي يخفن الاقتراب منه؛ في كل خطوة يغرس المحراث نفسه بالأرض فيشقها ويستمر الحصان المسير هكذا، معه يشقُ حلمًا لا جذور فيه داخل أسيل وصديقاتها.

3 دونمات

في اليوم الأخير، حبت أسيل وغيداء وندين مرة أخرى بين تلك الخطوط يزرعن حبات البازيلاء، على مسافة لا تبعد 500 متر عن سياج الاحتلال الفاصل شرق خزاعة، كل شيء ساكن حولهن، سوى أصوات طائرات الاحتلال دون طيار، ومحركات معداته العسكرية الفتاكة.

ما إن أوشكت شمس اليوم الثالث على الرحيل، فتحت أسيل صنبور مياه الخزان، فجرت المياه تتسابق لتخرج من ثقوب الخراطيم، لتروي حلم الفتيات، وتبلل حبات البازيلاء.

وقفت أسيل تتأمل المشهد ونسائم الغيث تتساقط في داخلها، أخيرًا وضعت يدها تحت صنوبر المياه وملأت كفيها، ورشقت به وجهها، ثم كررت المحاولة، تحاول مسح قطرات العرق، وتخفيف وطأة التعب والحر الجاثم على وجهها وجسدها.

وجدت الفتيات الثلاث، أنفسهن في فضاء واسع، أنهين الثانوية، والجامعة، والتطوع.. وأخيرًا بين أحضان الأرض، عبرت تلك المراحل بسرعة، يومٌ يطوي يومًا، مضت كل لحظة من عمرهن وأخذت معها في كل مرة خيطًا من خيوط حلمهن، يمضين يتقدمن في السن وهن ما زلن في عز شبابهن، لم يتجاوزن الـ20 ربيعًا، غير أنهن يحملن على كاهلهن هموم الشيوخ، فلم يجدن ما يحتضن حلمهن سوى باطن الأرض.

شهقات متقطعة تتصاعد من أسيل، ناجمة عن التعب "المضني" تتأمل المشهد وهي ترسم تعبيرا عفويا تعلو ملامحها إشراقة مرصعة بالأمل والحلم وفي داخلها آهات من الحزن لم تبحه هنا، فكان المشهد الأمثل هنا أن تقف أمام طلاب وتشرح لهم مادة الرياضيات أو اللغة العربية وغيرها من المواد التعليمية فمكانها الأمثل ليس هنا، هذه الحقيقة المرة التي تحاول الهروب منها على وقع حلم أجبرتها الظروف على خوض معتركه: "سعيدة للغاية، شعور رائع، وأنت ترى المياه تخرج من "التفتوف "(خرطوم ري)، منظر ممتع، أنه بعد الجهد والتعب وصلنا لهذه المرحلة".

تمرر يدها على هامتها تمسح آثار العرق من ناصيتها، بصوتٍ متعب يلتقط أنفاسها: "كنا نحبي زي الطفل الصغير عشان نزرع المزروعات".

وأسيل (26 عاما) خريجة بكالوريوس تعليم أساسي، ورفيقتها بالمشروع غيداء (24 عاما) درست تجارة لغة انجليزية، أما ندين (22 عاما) فدرست علوم مالية ومصرفية.

لماذا لجأتم لهذا الخيار!؟ احتاجت لأن تشهق طويلا في ردها، زافرة مسافة طويلة من المعاناة: "لجأنا للزراعة، لأنه لم يبق سوى هذا الطريق (...) الزراعة هي حرفة الأهل والآباء والأجداد، مع أنها متعبة وشاقة علينا، وبدأنا المشروع باستئجار ثلاثة دونمات".

"أتدري! لم ندفع الإيجار، على أساس دفعه من خير المحصول، كما أننا اشترينا الأدوات الزراعية دينًا من أحد المحال".

نبضات قلبها تتسارع فما زال أثر الإرهاق باديًا على صوتها والغبار يترك بصمته على جبينها وملابسها تشير تجاه أرضها: "بدأنا بحراثة الأرض بالمحراث، ثم مددنا الخطوط المطاطية الرئيسة والفرعية لتمر من خلالها المياه للزرع، وقبلها جلبنا الحصان لعمل الخطوط".

تنفض الغبار عن ثوبها، لكنها لم تستطِع إخفاءه من صوتها المثقل بالهموم: "وجدت مشقة كبيرة بالعمل في الزراعة، لم نتوقعه قبل أن أراه أمام عيني، تعبنا كثيرًا على مدار ثلاثة أيام بالذات لفتيات مثلنا بالعشرينات لم يعتدنه (...) زرعنا في يوم دونمًا ونصفًا، وفي اليوم التالي دونمًا ونصفًا أيضًا، وسنحاول زراعة نوع آخر في المساحة القليلة المتبقية الفارغة مثل الفجل أو الفول، فلم يبقَ لدينا مال لإحضار بذور البازيلاء".

ورغم فرحتهن بالمشروع فإن المخاطر تحيط به من كل جانب، "قربنا من سياج الاحتلال الفاصل، خوفنا من أن يرش المبيدات السامة، ومن التجريف، والكلاب الضالة" تتحدث مع صحيفة "فلسطين"، وهي تقبض يدها ويشع في عينها إصرار كبير: "إذا لم تخاطر في حياتك فأنت لم تعش ولم تنجز".

ترتبط أسيل ورفيقاتها بالأرض علاقة عشق وحب موروث تتمسك بأرضها وهويتها.

هدفهن الأساسي من المشروع، الحصول على عائد مالي لمساعدة عائلاتهن من مشاق العمل والتعب بعد عمر طويل، لكن لديهن هدف عام؛ تطلق لوجدانها العنان للبوح به "نريد أن ننشئ حاضنة بمنطقة خزاعة تضم الشباب والخريجين والخريجات من جميع الفئات، بحيث يمتهنون حرفة الزراعة، والجمع بين حرفة الزراعة والصناعة، وقد نزيد المنتجات مثلًا لو زرعت الزعتر، فنصنع منه الزعتر البلدي "الناشف"، أو مشتقاته من المعجنات، ولدينا أفكار أخرى لتصدير الخضار باسم الخريجات".

ما زال مشهد تسلم شهادة التخرج يوقد نفسه بداخل أسيل، "لا أنسى ذلك اليوم، حينما تخرجت مع أختي بنفس الاحتفال، أنظر للأمام نظرة طويلة بداخلي حينما صعدت على منصة التكريم، بما أني موهوبة في إيصال المعلومة بالذات بمادة الرياضيات، أرى نفسى معلمة، ثم مديرة (...) كنت أطمح لشيء لم أجده، لكن في النهاية يجب أن نتعب ونثابر ونضع هدفا أمامنا".

"على ناصية الحلم"

رشفت غيداء رشفتين من كوب الماء؛ تحتسي جرعة راحة، يجرها الحديث لتذكر ومضات عابرة في حياتها: "استنفدت كل الطرق للحصول على عمل، منذ عامين تطوعت مع عدد كبير من المراكز الشبابية، ومؤسسات رسمية ومبادرات، كنت سعيدة بذلك، لكن أريد تأمين سبيل معيشي لي ولأهلي، حتى لو كان بسيطًا، فلجأت للعديد من المؤسسات بمجال تخصصي المحاسبة، وللأسف لم أجد.. هذا جعلني أعود لمهنة أهلي (الزراعة)".

تغيرت الأمور على غيداء وأسيل وندين، فقبل فترة كان وقت الاستيقاظ حرًّا لديهن، أما الآن، فهن مجبرات على الاستيقاظ مع طلوع الشمس، ما إن ترحل عقارب الساعة عند السادسة صباحا، لري الأرض قبل فصل التيار الكهربائي.

ندين، التي درست علوم مالية ومصرفية، تطوعت في عدة جمعيات لكنها لم تحظ بوظيفة، فالتقي حلمها مع حلم أسيل وغيداء ونبتت مشروعهن هذه المرة "من باطن الأرض".