فلسطين أون لاين

بعد "الولادة الثانية".. بشائر الفرح لم تنقطع عن بيوت المُحرّرين

...
غزة- يحيى اليعقوبي:

وضعت الممرضة طفلته المولودة للتو بين ذراعيه وقد طوى العام الأول بعد الإفراج عنه؛ وكأنها تزرع وردة داخل قلبه لتزهر بداخله فرحة لا جذور لها، تختلف عن الأفراح التي مرت عليه، فقد أهوت معها دموعًا دافئة سالت منه تمسح مرارة الأيام التي سرقها منه السجن.

في كل دمعة حكاية مختلفة، عن السجن وظلمه، وانعتاقه منه، عن الحرية التي يراها الأسير المحرر عبد الرحمن شهاب (53 عامًا) بين يديه، وهو يمسك هذا الكائن "الملائكي" ويقر عيني والديه به.

تمر الذكرى التاسعة على الأسرى المحررين ضمن صفقة تبادل الأسرى "وفاء الأحرار"، ومعها تغيرت حياتهم، وكبر أطفالهم، لا تنقطع عنهم أخبار التهنئة بقدوم مولود جديد لهذا الأسير أو ذاك، وما كان هذا سيحصل لولا تلك الصفقة التي أفرج بموجبها عن (1027) أسيرًا، على مرحلتين: الأولى شملت 450 أسيرًا، منهم 315 محكومًا عليه بالسجن المؤبد، والباقي من أصحاب المحكوميات العالية، إضافة إلى 27 أسيرة، منهن خمس محكوم عليهن بالسجن المؤبد.

"كل أشكال الفرح التي عشتها كانت تقل عن فرحة يوم الإفراج، لكن أن تحتضن المولودة الأولى وتضعها بين ذراعي والديك، وأنت ترى الفرح في أعينهما، وتقر عينهما برؤية أحفادهما بين أيديهما بعد تعب طويل، هذا يذهب شيئًا مما سببه ألم السجون" هكذا مرت لحظة إبصار "لوتس" الحياة على والدها المحرر شهاب، والآن بلغت ثمانية أعوام.

رسائل الفرح

كانت الرسائل التي وصلت إلى الأسرى المقرر الإفراج عنهم آنذاك بشائر فرح تهبط على قلوبهم، فتعزف ألحان الانتصار بين القضبان، توالت الرسائل واستمر قطار الفرح بتحطيم أحكام المؤبدات المنصوبة على سكة معاناة طويلة أمام هؤلاء الأسرى، قبل أن تصبح في عداد الماضي، ويهلّ فجر "الحرية".

في ذكرى "وفاء الأحرار" يعيش شهاب تلك الأجواء، ولكن من بوابة الذكريات: "بعد تبليغنا بمكان الإفراج، طمأنا الأهل، وهدأنا من روعهم، خاصة أنهم كانوا في حالة ترقب (...) اللحظات الأخيرة كانت كلها وداع، وشعور بفراق صداقات غرست في قلوبنا لأحبابنا الأسرى داخل السجون".

لا يزال يقلب تلك الذكريات وفي قلبه حنين لأولئك الأسرى: "تخيل أنك تترك أسرى؛ منهم من أمضى أكثر منك في سجون الاحتلال، وعندما جاء موعد الإفراج عنا وخرجنا من الأقسام، لم أستطع أن أحمل قدميّ وكأنهما تجران حجارة خلفهما، تعرف أنك عائد لأهلك، لكنك تترك خلفك إرثًا ثقيلًا من الذكريات مع الأسرى، وتقف على ناصية بداية حياة جديدة، مختلفة عن السنوات التي أمضيتها معهم".

تمر الدقائق والساعات الأخيرة، أكثر بطئًا من سلحفاة مسنة لا تستطيع حمل نفسها، لا تكاد تدور عقاربها، "تجمع الأسرى في سجن النقب، وبدأت الحافلات نقلنا إلى حاجز كرم أبو سالم، ونحن مقيدو الأيدي والأرجل -يروي شهاب أحد أصعب المشاهد- أنزلنا هناك وصعدنا إلى حافلات فلسطينية، كانت كل دقيقة أشبه بسنة في تلك اللحظات".

كان الاحتلال أسر شهاب في 1998م، وحكم عليه بالسجن 35 عامًا، أمضى منها 23 عامًا قبل أن يُفرج عنه بموجب الصفقة، وفي اليوم الأخير في السجن بدا أشبه بإنسان يغادر عائلة عاش معها أكثر من عائلته: "مجتمع الأسرى داخل السجن مترابط، وهناك جيل نشأ في الخارج أنت لا تعرفه من الأهل، وهذا المجتمع هو المشاهد، أما عائلتك فأنت مغيب عنها ومغروسة في عقلك الباطني".

هنا تفاصيل مخبأة، ترسو ذاكرته عند اليوم الأول له بعد الإفراج: "مباشرة لم أستطع الفراغ، تعودت أن حياة الأسرى كالنحلة كثيفة الأوقات، لا يوجد وقت فراغ، تزوجت، وأسست مركز "أطلس" للدراسات في الشأن الإسرائيلي في منتصف 2012م".

ماذا تمثل لك ذكرى الإفراج عنك؟، احتسى جرعة من صمت، رافق تنهيدته شهقة طويلة زافرًا معها حكاية طويلة من المعاناة: "حينما يأتي اليوم يمر عليك كثيرون: العائلة التي دفعت الثمن وأمضت معك سنوات الاعتقال صابرة، وأصدقاؤك الأسرى الذين تركتهم وقد تقدم بهم العمر، تريد أن تعرف ماذا تغير عليهم، وأنت ترى ماذا تغير عليك، والشهداء الذين دفعوا الثمن للإفراج عنك، وعائلاتهم، وكل أهالي قطاع غزة، الذين دفعوا ثمنًا غاليًا، من حصار وعقاب، هو يوم للتفكير في كل ذلك، ويوم فرح تاريخي لم يمر مثله على الشعب الفلسطيني".

تكررت فرحة المولود، فبعد أن رزق شهاب لوتس (ثمانية أعوام) جاءته ريتا (سبعة أعوام)، ثم بلال (خمسة أعوام)، "أقضي معظم وقتي معهم في البيت، وهم نائمون أنظر إليهم، وكأني أعيش حلمًا لا أصدق أنه واقع، يخالج تفكيري مشهد الزنزانة وكأنني سأعود إليها وأخرج من الحلم" سبق صوته ضحكة عبرت عن كل ما في داخله من سعادة.

حياة جديدة

"في هذا اليوم تنفست حياة من جديد، نحن تاريخ ميلادنا معروف، لكن في هذا اليوم ولدنا الولادة الثانية، لأننا خرجنا من سجون أرادها الاحتلال أن تكون مقبرة للأحياء" هكذا تمر الذكرى التاسعة على الأسير المحرر عامر أبو سرحان (49 عامًا).

حكم عليه الاحتلال بالسجن ثلاثة مؤبدات و20 سنة، أمضى منها 21 سنة في سجونه، يقول: "رغم أني كنت محكومًا علي بالسجن مدى الحياة، كنا على يقين أن الأمل يتجدد، وأن المقاومة تبذل جهودًا كبيرة، وأنها ستحررنا".

عانقت الفرحة هذا الأسير، فطفلته جهاد التي رزقها في 1988م قبل دخوله الأسر كبرت وأصبحت أمًّا، حتى إن حفيدته ولدت قبل الإفراج عنه بيومين فسماها "بشائر"، وفي غزة تزوج ورزق عمر (ثمانية أعوام) الذي عمّر قلبه بالفرح، ثم رحيق (ستة أعوام) تلك الزهرة التي تتفتح أمامه كل صباح، وأسامة (ثلاثة أعوام) الذي يداعبه مثل أشبال الأسود، ويحيى (شهران)، وما زالت حياته تنبض وتزهر.

كسابقه لم ينسَ أبو سرحان يوم وداع السجن بلا رجعة: "كنا على يقين أن الاحتلال سيرضخ لشروط المقاومة، وعندما علمت أن اسمي من ضمن الذين سيفرج عنهم، عشت 48 ساعة بفرحة لا توصف، تعجز الكلمات عن التعبير عنها، العزة، والكرامة، والأمل الذي كنا نعيشه، مقابل الذل والمهانة في عيون السجانين، وسرنا بالحافلات ونحن ننشد الفرح، وأناشيد الهتاف للمقاومة حتى وصلنا إلى غزة".

بعد أسبوع من الإفراج عنه، دقت مراسم الفرح بابه مرة أخرى، وتزوج في الأول من تشرين الآخر (نوفمبر)، ثم أدى مناسك الحج.

يربط بين الماضي واليوم، بصوت سبقته كل عبارات الشكر لكل من أخرجه من السجن: "نحن المحررين تركنا خلفنا أسرى آخرين، أسرت معهم سنة 1990م، ما زالوا يقضون حكمهم، منهم من أمضى 30 سنة، الفرق أصبح شاسعًا، بحكم الظروف، رغم ألمنا على حالهم، الآن لدي بيت، وأسرة، وحياة مختلفة تمامًا، عن أسير محروم رؤية عائلته، لذلك رغم ما أعيشه من فرحة إنني دائم التفكير بهم، أتمنى أن يأتي اليوم وأجدهم خارج أسوار السجن".