فلسطين أون لاين

"الأيدي الناعمة" تعزف أهازيج الفرح في موسم جني "الذهب الأخضر"

بين حقول "الزيتون".. أعراسٌ تراثية تحيي "أيام زمان"

...
خان يونس/ يحيى اليعقوبي:

صوت تساقط حبات الزيتون الأخضر على النايلون وهي تقطفها الأيدي يشبه صوت تساقط زخات المطر على الأرض في شتاء بارد ثم تستلقي في ذراع أمها آخذة غفوة تحتها؛ يضيء لمعانها القلوب بلا نار ولا موقد وتغرس حبها فيصل جذور الأرض.

تشع الفرحة والابتسامة في موسم قطف "الذهب الأخضر"، أو الأسود المتحالف مع البني أو البنفسجي، أو الأصفر المخضر، ألوان تعكس جمال الحياة فتبث بالروح أملًا جديدًا وحكاية، يرتوي فيها الشوق إلى يوم أشبه بالعيد على وقع أهازيج الفرح تستعيد فيها العائلات ذكريات "أيام زمان"، يمر الوقت سريعًا وكأنه يسير على ظهر خيل لا يشعر المزارعون بمروره، وصدق من قال: "في وقت الزيت أصبحت مسيت"، فلا يدركون كيف سرق النهار وقتهم، وانسحبت الشمس من الأجواء وشدت معها أشعتها الصفراء خلفها.

قبل طلوع الشمس في صباح تشريني مليء بنفحات هواء باردة تنعش الأرواح، ورائحة أرض مروية بعد ليلة ممطرة، تعطي إشارة بدء موسم "الحصاد" فترى فلاحًا يداعب حبات الزيتون، تشابه تجاعيد وجهه، شقوقًا تخط طريقها بين جذعها، يرسمان حكاية "عشق" تتجدد كل عام، ويجدد عهد الارتباط بينهما وتغرس الشجرة جذورها في قلبه، بين الحقول تعيش على وقع عرس تراثي في طقوس وتقاليد متوارثة، تجمع جميع أركان العائلة، أو ترى صاحبات "الأيادي الناعمة" يتجمعن أسفل كل شجرة يلتقطن حباته ويغنين له: "على دلعونا وعلى دلعونا .. زيتون بلادي أجمل ما يكونا".

منتصف اليوم؛ تطلق الشمس أشعتها شرق القرارة جنوب قطاع غزة؛ وأنت تسلك طريقك بين الأراضي الزراعية، يأخذك المشهد إلى شكل الحياة الريفية: الهدوء، وأراض وأشجار تفترش مساحات واسعة من الأرض، وأصوات العصافير تطرب مسامعك من كل اتجاه، أجواء عرس بين حقول الزيتون تعيشه العائلات.

حصاد الزرع

بين تلك الأراضي تتباهى أشجار الزيتون بكثرتها، في داخل كل أرض تجد نسوة وفتيانًا وشبابًا، يتشاركون في جمع حباتها وجني حصادها، تتجلى هنا عبارة "ازرع تحصد"، فالأشجار التي لم يعتنِ بها أصحابها جيدًا، من ري، وتسميد، وتركوها طوال العام وجاؤوا ليحصدوا ثمارها، لم يكن حمل الشجرة، مثل "زيتونة" رواها صاحبها واهتم بها طوال العام، إذ كان الفرق شاسعًا في عدد الحبات على الشجرة الواحدة أو حجم الحبة.

في أرض زراعية؛ تلتف الطفلة ميرنا (١١عامًا) وابنة عمها يارا مع شقيقاتهما حول كومة من الزيتون الأسمر المفروش فوق أرضية من النايلون؛ يزيلون الشوائب عنه والأوراق العالقة، تغرس ميرنا ذات الشعر النحاسي التي يعلو خدها حمرة مشرقة طبعتها الشمس عليها، كف يدها مخرجة كومة زيتون بها، ثم تلقي حباتها واحدة تلو الأخرى على الكومة نفسها، كررت الأمر ثانية، وثالثة، ومثلها فعل إخوتها وأبناء عمها، راسمة ابتسامة عفوية.

وجدت ابنة عمها درس اللغة العربية في الصف الرابع الابتدائي واقعًا على الأرض بعنوان: "رمز العطاء"، قرأت فيه أنها عندما تكون متعبة تجلس تحت شجرة الزيتون في فناء البيت، كما تفعل الآن في أرضهم، وتكمل بقية النص: "فأحس بالراحة بعد التعب، وعندما أحس بالضيق في صدري أنظر إليها؛ فتحكي لي حكايات لا تنتهي عن أجدادنا القدماء عندما غرسوها قبل مئات السنين، واعتنوا بها، وسقوها من حبات عرقهم، وتحكي لي عن قصة صمود شعب يأبى إلا أن يحافظ على زيتونته المباركة في أرضه المباركة".

بعفوية تعبر ميرنا عن فرحتها: "إحنا اليوم مبسوطين كتير، عشان إجينا نساعد بابا وعمي وستي (...) إجينا الصبح معهم على الأرض، إحنا بنحب شجرة الزيتون وبنحب نشاركهم في الحصاد زي أكنك رايح على عرس".

يتسلق أنس (13 عامًا) الشجرة من الأعلى، على درجات سلم خشبي، يطارد حبات الزيتون السمراء على هذه الشجرة وهي تتدلى، وقت طويل مضى منذ صباح اليوم ولا يزال هو وإخوته يجنون الشجرة الثانية من أصل ٢٠ شجرة في أرضهم الزراعية البالغة مساحتها ألف متر مربع، تارة يكشف وجهه للشمس وتارة أخرى يدخل بين أغصان الزيتون هاربًا من حرارة وقت الظهيرة.

"الصليبة" كما يقال شعبيًّا هو شتاء يحدث نهاية شهر أيلول (سبتمبر) من كل عام، وتمثل إشارة وعلامة للبدء بجني الزيتون، وإن لم يجنَ خلال شهر تشرين الأول (أكتوبر)، فإن الشجرة تبدأ بإسقاط حباتها على الأرض.

تتحرك أصابع أبي كمال الدالي بين الأغصان ملتقطًا الحبات بوتيرة سريعة، يسابق الزمن فأمامهم مشوار طويل في الجني، بوجه طلق وابتسامة عريضة: "نعيش فرحة أشبه بفرحة العيد، أطفالنا منذ أمس ينتظرون القدوم للأرض والمشاركة في جني الزيتون؛ فلنا تقاليدنا مع هذه الشجرة التي ورثنا حبها من أبي، فنحن لا نبيعه بل نجنيه لنأكله ونعصره".

يضحك بابتسامة بارزة: "بنقدرش نعيش، ويكون البيت خالي من الزيت".

يمسك غصن شجرة رابطًا بين الماضي والحاضر: "هذه عمرها ١٥ عامًا، ولكن لدينا شجرة زيتون مزروعة ببيتنا يزيد عمرها عن ذلك (...) لا نبيع الزيتون بل نجنيه كي نأكل ثماره، ونعصر الزيت".

أسفل شجرة؛ تجلس والدته تجمع حولها أحفادها، تقطف الحبات واحدة تلو الأخرى، كلما زادت مدة القطف كانت سعيدة أكثر، لا تشعر بالتعب، تردد بعض أهازيج الفرح الشعبية عن موسم قطف الزيتون، تحرص على المشاركة في موسم جني الزيتون كل عام: "زيتون بلادي واللوز الأخضر، والميرامية ولا تنسى الزعتــر .. وقراص العجــة لمـا تتحمـــر، ما أطيب طعمها بزيت الزيتونا"، راجعة للمَّات "أيام زمان".

"الجميل في موسم الجني هو مشاركة العائلة الواحدة، فهذه الشجرة تعلمك مبادئ كثيرة في الحياة، فهي مباركة قوية، تصبر على التقلبات الجوية، تعلمك الانتماء لوطنك كما تتجذر بالأرض، تعلمك الوفاء فهي وفية لصاحبها الذي يعتني بها، وهذا الحب نورثه ونعلمه لأبنائنا" قالتها وهي على هيئة القطف ذاتها.

تشير إلى أحفادها؛ سعيدة بوجودهم: "انظر إلى فرحة الأطفال بمشاركتهم معنا، هذه الفرحة وهذا الجو العائلي من الألفة والجمعة يقوي روابطنا ومحبتنا، يعلمنا المشاركة واقتسام الرزق بين جميع الإخوة".

مكافأة وعطاء

في أرض أخرى، ما إن انتهى أكرم عبد الغفور من قطف شجرة زيتونة كبيرة هو وإخوته وأقاربه، حتى أمسك خرطوم مياه ووضعه في حفرة دائرية مجوفة يرويها بالمياه، وكأنها علاقة حب متكافئة، هي أعطته إنتاجًا غزيرًا، وهو كافأها وسقاها فحصد نتاج ما زرع.

قرب كومة من "الذهب الأخضر"، يجلس يداعب حباتها، ويزيل الشوائب عنها هو وأطفاله الصغار، يجذبك حوله مشهد أشجاره التي تتسلق السماء تباهي أشجار المزارع الأخرى حولها، ترى الحبات الخضراء غزيرة على الشجرة، ولكن لم يأتِ هذا من فراغ، يقول وهو يرتدي قبعة وسترة بلون السماء، تحجب الشمس عن ملامحه الداكنة، بابتسامة براقة يشع منها الفرح: "لدي هنا 25 شجرة زيتون، وأغلبها من النوع السري وهو أجود الأنواع لأن زيته ثقيل مقارنة بغيره من الأنواع مثل الشملالي أو k18".

يزيد ابتسامة عفوية: "الزيتون شجرة مباركة واللي ببيته زيت ما بضان (لا يرى الضيق)، واللي بتعب عليها بلاقي نتاجه آخر السنة، وفي ناس بتتذكرش الزيتون إلا لما بده يجد (جني)؛ وبده الزيتون يجيبله زيت!".

كيف تعتني بأرضك؟، لم تغب ابتسامته أيضًا هنا مشيرًا تجاه الشجرة التي يرويها الآن: "انظر انتهيت من جني الزيتون منها، لكني سقيتها، أي أن الاعتناء بالشجرة يجب أن يكون طوال العام حتى تعطيك محصولًا وفيرًا".

يشرح: "ما إن ننتهي من جني الزيتون حتى نعود لريه، ننتظر أول شتاء في شهر شباط (فبراير)، فنرشه بالشيد، ونحضر له السماد، بعضٌ -يا للأسف- ينتهي من الحصاد وينسى شجرة الزيتون".

جرافات الاحتلال وصلت إلى أرضه البعيدة عن السياج الفاصل شرق خان يونس نحو كيلومتر، واقتلعت العديد من أشجارها في 2014م، لكنه عاود زراعتها من جديد.

تنظم العائلة هنا عملية الجني، فمنذ ساعات الصباح حتى الرابعة عصرًا حصدوا أربع شجرات فقط نظرًا لكبر حجم الأشجار وغزارة حباتها، فترى أمامك العديد من الأطفال والشباب، هذا يجلس أسفلها، وهذا يتسلق جذوعها، وذاك يصعد فوق السلم، وآخرون يلتفون واقفين حولها من كل اتجاه، تسمع أصوات تساقط حباتها مثل سحابة مطر تلقي ماءها بغزارة دون توقف، يجذبك نقرات الحبات الخضراء على النايلون الأبيض من يد الشاب فراس عبد الغفور، الذي لا يخفي فرحته وهو يتخفى عن الشمس بين أوراقها وأغصانها مستمتعًا ببريق اللؤلؤ الأخضر: "هذا موسم نادر في السنة، وهو موسم جميل بلقاء الأحباب، وهذا موسم يتمناه كثيرون".

ووفقًا لإفادة وزارة الزراعة بغزة، إن القطاع يمتلك نحو 40 ألف دونم مزروعة بأشجار الزيتون (الدونم ألف متر مربع(، وتتوقع أن يكون الإنتاج هذا العام نحو 24 ألف طن من الزيتون.