فلسطين أون لاين

حينما رفعت راية الاستسلام أمدت لها أمها "طوق النجاة"

أنصاف إسماعيل.. تجربة "سرطان الثدي" تقدمها "للمحاربات الجدد"

...
الناجية من سرطان الثدي أنصاف إسماعيل
غزة/ يحيى اليعقوبي:


في ركن عيادة الطبيب؛ تجلس وحيدة وهي على موعد مع نتيجة فحص "سرطان الثدي"، دقائق الانتظار تمر ثقيلة على أنصاف إسماعيل (43 عامًا)، تأخر الطبيب في خروجه إليها مع قدوم حالات أخرى قابلهن، حتى غشتها رياح الخوف والقلق وأسقطتها من على خريف التفاؤل تغرقها التساؤلات: "هل سيكون مصيري مثل شقيقتي؟!"، حتى خرج إليها آتيًا من نهاية السطر: "والله يا أنصاف كنت حابب أطمنك، لكن النتيجة مش منيحة".

- شو يعني مش منيحة؟!

- يعني؛ بصراحة الخلايا اللي فحصتها هي خلايا سرطانية.

صمتت أنصاف، عم وجهها الظلام، على وقع صوت هدير أنفاسها المتقاطعة كما نبضات قلبها هنا!؛ حتى خرجت عن صمتها: "دكتور حابة نعيد التحليل عشان نتأكد"، الطبيب يعارضها: "بصراحة متأكد"، قبل أن يتراجع: "بس عشان ترتاحي حاخد عينة من نفس الورم"، ومضت خمسة أيام أخرى بانتظار إعلامها النتيجة، في هذه اللحظة كان قلبها هشًّا لا يقوى على استشعار الخوف المسيطر عليها، تمضي الأيام وكأن عداد الوقت متوقف بلا حركة، فهي أمام نقطة فاصلة تحدد مصير حياتها: "إذا كان سرطانًا فهل سيكون مصيري مثل أختي التي توفيت به، ونال منها؟!"، تعيش على وقع أفكارها التائهة في مسالك الخوف التي تعتريها، حتى جاء اليوم الخامس وأكد الطبيب النتيجة أنها مصابة.

أنصاف التي نجت من "سرطان الثدي" بفعل اكتشافها المبكر له كان وجهها يشع منه بريق ابتسامة بنشوة "الانتصار"، في مقر عملها التطوعي وهي تجهز حقائب مليئة بالمعقمات لتوزيعها على مريضات "سرطان"، حيث روت لصحيفة "فلسطين" خلال 20 دقيقة حكايتها في محاربة "المرض الفتاك".

اكتشاف مبكر

"بدأت قصتي عام 2014م؛ فقد أخذت مع شقيقاتي وأمي عهدًا –بعد وفاة شقيقتي بالسرطان – بأن نجري فحوصات دورية، وخلال أحد الفحوصات اكتشفت وجود ورم وتبين أنه سرطاني (...) في تلك المدة لم تكن أمور حياتي مستقرة إذ كنت أعيش مرحلة الانفصال عن زوجي السابق، وعلي الاعتناء بطفلتَيّ، الأمر المطمئن كان أنه بسبب الاكتشاف المبكر لم يكن هناك انتشار لسرطان الثدي، ما هون علي الأمر، فخضعت إلى نصف برتوكول علاجي بأربع جلسات كيماوي" من هنا بدأت رحلة المحاربة ومقاومة المرض.

لكن الأمر لم يكن سهلًا: "قرأت عن العلاج بالكيماوي وآثاره الجانبية، لكن ما تقرأ ليس كما تعيش، مع أول جلسة علاج، بدأت الأعراض تتوالى، قيء، وغثيان، وارتفاع درجة الحرارة، وأوجاع جسمانية، انخفضت المناعة إلى تحت الصفر، لكون "الكيماوي" مادة حارقة تمشي بجسد الإنسان فتحرق الأخضر واليابس (الخلايا السليمة والسرطانية معًا)".

راية الاستسلام

في الجرعة الثالثة، قبل الأخيرة، رفعت أنصاف راية الاستسلام أمام التعب، وأحكم اليأس قبضته عليها، وحاصرها من كل جانب، لم تستطع المواصلة، قبل أن تتدخل والدتها، وتمدها بشحنات ودافعية إضافية: "أمي قست علي في تلك المدة لأنها كانت قد تابعت مع شقيقتي التي توفيت برتوكول العلاج نفسه، وما زلت أذكر كلماتها: (إنت يا انصاف ضحيتي بحياتك؛ عشان هدول البنتين، مش خسارة فيهم إنك تكملي تضحيتك)".

تذكرت كلمات أمها بابتسامة تحمل في ثناياها كل عبارات الوفاء، معلقة: "استوقفتني كلمات أمي، وأعطتني حافزًا وقررت استكمال العلاج، وأخذت الجرعة الثالثة ثم الرابعة الأخيرة، وأجريت فحصًا بعد شهر بين عدم وجود خلايا سرطانية أي تماثلت للشفاء (...) لا أعرّف ذلك انتصارًا، لأني أحرمه بيني وبين نفسه، فتعاطيت وقاومت شيئًا أرسله الله لي رسالة أو امتحانًا".

الصدمة الثانية

لم يغر هذا الشفاء أنصاف ولم تركن له، واستمرت  في إجراء تحاليل وفحوصات دورية كل ستة أشهر، لكن في شهر آذار (مارس) 2020م، كانت "الصدمة الثانية" بعدما أظهرت الفحوصات وجود خلايا سرطانية في الثدي الثاني، تقول: "لأنه لدي تجربة سابقة، أجريت عينة وأظهرت  أني مصابة، وكما المرة الأولى كان الاكتشاف في المرحلة الأولى، وحجم الكتلة السرطانية صغير، ولا يوجد انتشار، في البداية خشيت العلاج "الكيماوي" قبل أن يخبرني الطبيب أن حالتي تتطلب علاجًا هرمونيًّا مدة خمس سنوات مع إجراء عملية استئصال للثدي".

الأمر الفارق في حياة أنصاف أنها كانت عام 2014م "ربة بيت"، وبعد شفائها في المرة الأولى تطوعت بمؤسسة "العون والأمل" حتى اللحظة، استمعت إلى قصص الناجيات، "أحببت التجربة وكنت أرغب في إفادة أي سيدة تمر بتجربة مماثلة" هكذا انتقلت إلى الحياة العملية، موجهة نصيحة لكل سيدة: "لا تهملي الفحص الدوري في البيت أو المراكز الصحية، لأن هذا الشيء سيخفف عنك كثيرًا، إن اكتشفت كتلة سرطانية في البداية".

ملامحها المشرقة بابتسامة عريضة رسمتها وجنتاها  تسبق صوتها في التعبير عن حبها للتطوع، بلهجة عامية: "شغلي الأساس هنا، استقبال وفتح ملفات لمريضات (...) لما بدها المريضة تسجل بكون حاسة بحالة اليأس والخوف، لكن بقدم نفسي إلها كنموذج شفيت من السرطان حتى تتغير نفسيتها".

وهكذا أصبحت أنصاف نموذجًا يقدم إلى "المحاربات الجدد" في "سرطان الثدي"، تقدم النصائح النابعة من تجربتها الواقعية لهن، تمد إليهن طوق "النجاة" الذي مدتها به والدتها.