تثير توافقات لقاء إسطنبول بين حركتَي فتح وحماس من الأسئلة أكثر بكثير مما تقدّمه من أجوبة. في اللحظات الأولى، قيل إن اتفاقًا تم بينهما على إجراء انتخاباتٍ متعاقبةٍ تفصل بينها فترات، تبدأ بانتخابات المجلس التشريعي في الضفة الغربية والقدس وغزة، تعقبها بثلاثة أشهر انتخابات للرئاسة، ومن ثم تأتي انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني من دون تحديد موعد لها، وهي التي يُفترض أن تشمل الفلسطينيين في أماكن وجودهم كلها. وأن اجتماعًا سيُعقد للأمناء العامين للفصائل في الثالث من أكتوبر/ تشرين الأول (الحالي) للمصادقة على هذا الاتفاق، وسيُصدر الرئيس محمود عباس فورًا المراسيم اللازمة لتنظيم الانتخابات. وأعلنت لجنة الانتخابات أنها تحتاج إلى 90 يومًا لإتمام المرحلة الأولى بعد صدور المرسوم الرئاسي.
قيل أيضًا إن هذه الانتخابات ستُجرى على أساس القوائم النسبية الكاملة، وإن اتفاقًا تم حول طبيعة هذه القوائم، سواء بالذهاب إلى الانتخابات في قائمة واحدة مشتركة تتقاسم مقاعدها حركتا فتح وحماس، وقد تُتاح الفرصة لفصائل أخرى بالحصول على بعضها، أم بالاتفاق المسبق بين الفصيلين الرئيسين على آليات تقاسم المقاعد وعدد المرشّحين، فيرشّح كل منهما العدد المتفق عليه لنيل عضوية المجلس، وهو ما أطلق عليه بعضهم اسم "الديمقراطية التوافقية"، معتبرين أن من شأن ذلك منع تكرار تجربة الانتخابات السابقة (عام 2006)، التي حازت فيها "حماس" أغلبية مقاعد المجلس التشريعي (74 من 132 مقعدا)، وأنه بذلك تُطوى صفحة الانقسام الفلسطيني. وقيل إن المباحثات جرت بعيدًا عن الوصاية العربية التي كانت تمارَس على الوضع الفلسطيني عند بحث ملفات المصالحة ومنظمة التحرير. ولكن من اللافت أن وفد "فتح" في مباحثات إسطنبول التي عُقدت في مقر القنصلية الفلسطينية، باعتبارها أرضًا فلسطينية، قد غادرها إلى الدوحة، ومنها إلى القاهرة، ومن ثم تم إطلاع الأردن على نتائجها، ومن المتوقع أن يكون قد زار دمشق عند نشر هذه المقالة. ولا شك أن "حماس" أيضًا قد أجرت اتصالات عدة، وأن كلا الطرفين قد تلقيا نصائح تراوحت بين التأييد والتحفظ والتحذير من منح دور أكبر لحركة حماس قد يعيق التحركات السياسية المقبلة.
مرّت عدة أيام، وتراجع بعدها وهج الاتفاق، تاركًا وراءه أسئلة كبرى، إذ لم يُعقد اجتماع الأمناء العامين، ولم يصدر مرسوم إجراء الانتخابات، ولم تُحدّد مواعيد لذلك. وعقدت اللجنة المركزية لحركة فتح اجتماعًا برئاسة الرئيس محمود عباس. وكذلك فعلت حركة حماس في اجتماع مكتبها السياسي، حيث رحب كل منهما باجتماع إسطنبول. لكنهما تحدّثا عن ضرورة إنضاج الاتفاق، ما يعني بوضوح أن ثمّة ملفات كثيرة لم يجرِ التفاهم عليها بعد، سواء بين الفصيلين أم في داخل كل فصيل، وسط معارضة بعض الفصائل الفلسطينية الأخرى وترقبها هذه المحاصصة، ومحاولة توزيع المقاعد والأدوار بين حركتي فتح وحماس بمعزل عن الآخرين.
مضى دهر على استحقاق إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية. انتهت ولاية الرئيس محمود عباس منذ عام 2009، وانتهت ولاية المجلس التشريعي الذي تم حله عام 2018 أيضًا منذ عام 2010. أما المجلس الوطني الفلسطيني المتوقفة جلساته، إلا ما ندر، منذ اتفاق أوسلو في 1993، في مخالفة للنظام الداخلي الذي يحتم عليه عقد جلسة في كل عام، فهو لم يشهد أي انتخابات، لا هو ولا أغلب المنظمات الشعبية التي تشكل جزءًا مهمًا من تركيبته، هو والفصائل الفلسطينية التي أفل جزء كبير منها، في حين ظهرت قوى وفصائل أخرى لا علاقة لها بتركيبته الراهنة.
هل الهدف من هذا الاتفاق إنهاء الانقسام الفلسطيني؟ وهل ينتهي الانقسام عند توزيع المقاعد والسلطات وضمان حصة كل فصيل، من دون الاتفاق على برنامج وطني يفعّل ميدانيًا لمواجهة الاحتلال ودحره عن الأرض الفلسطينية، ومقاومة نظام الأبارتهايد، وصولًا إلى تفكيك النظام الصهيوني بأسره؟ وإذا أُجريت الانتخابات وفق "الديمقراطية التوافقية"، فكيف ستُحدّد حصص الفصائل الأخرى؟ هل سيكون ذلك على أساس انتخابات المجلس التشريعي السابق، حيث حصلت "حماس" على 74 مقعدًا، و"فتح" على 45 مقعدًا، في حين لم تحصل الفصائل الأخرى مجتمعة سوى على ستة مقاعد، ونال المستقلون أربعة مقاعد؟ وما هو مصير الفصائل التي لم تشارك، لاعتبارات تتعلق بموقفها من اتفاق أوسلو، مثل حركة الجهاد الإسلامي وبعض الفصائل المقاومة في غزة، أو تلك التي خاضت الانتخابات ولم تحصل على أي مقعد؟ وهل ستتفق حركة فتح على من يمثلها، من دون أن يخرج عن قرارها المركزي أفراد واتجاهات، كما حدث في المرّة السابقة؟ ولماذا هذا الفصل بين الانتخابات التشريعية والرئاسية وانتخابات المجلس الوطني؟ وإذا كان من الممكن، على الرغم من جميع ما ذُكر، توزيع مقاعد المجلس التشريعي، فهل من الممكن بعدها اختيار رئيس توافقي بين هذه الأطراف، خصوصًا أن الرئيس محمود عباس كان قد أعلن عدم نيته الترشّح لولاية جديدة؟ ولماذا لا تُعطى الأولوية لانتخابات المجلس الوطني الفلسطيني في الداخل والخارج، بحيث نعيد التأكيد عبرها على وحدة الأرض والشعب والقضية، والتمسّك بروايتنا التاريخية، ونعيد الاعتبار لقطاعات مهمة من الشعب الفلسطيني تم استثناؤها منذ اتفاق أوسلو ونشوء السلطة الفلسطينية؟
تثير هذه الأسئلة سؤالًا رئيسًا بشأن مدى جدّية إجراء الانتخابات. وفي تقدير كاتب المقالة أنها استمرار لمحاولاتٍ كسب الوقت، والهروب إلى الأمام، من دون اللجوء إلى اتخاذ قراراتٍ حاسمةٍ تتعلق بإعادة القضية الفلسطينية إلى مسارها الأصلي، والتخلص من وهم المفاوضات وسراب الحلول، والبدء فورًا في تنفيذ برنامج وطني للمقاومة الشعبية أساسا لأي مصالحة، وسحب الاعتراف بـ"إسرائيل"، وذلك كله يجري الدوران حوله والالتفاف عليه، من دون التجرّؤ على اتخاذ قراراتٍ جادّة بشأنه، إبقاءً لقنواتٍ مفتوحةٍ تنتظر ما ستسفر عنه انتخابات البيت الأبيض الذي تقف السلطة الفلسطينية، كما يبدو، مشلولةً عن اتخاذ أي مبادرة قبل تبيّن الدخان الأبيض من واشنطن.