نعيش هذه الأيام في رحاب إحياء ذكريات مجيدة مثّلت فصلاً من فصول نضال الشعب الفلسطيني الطويل، في سبيل إعادة الاعتبار لقضيته الوطنية واستعادة حقه في تقرير المصير، والتي تميزت بالحراك الشعبي وبسالة الفلسطيني وتضحيته من جهة وشكلت محطة جديدة مثلت رهاناً رابحاً في حماية القضية الفلسطينية برمتها من جهة ثانية.
تمر علينا الذكرى العشرون لانتفاضة الأقصى والخامسة لانتفاضة القدس وهي ذكرى لثورات فلسطينية وإن اختلفت في مستوى العمليات العسكرية لكنها تشاركت في الصراع المفتوح مع العدو الصهيوني والتمسك بخيار المقاومة، وأحدثت تأثيرا عميقا في الفكر السياسي الفلسطيني وصياغة العلاقات مع الاحتلال كعدو استراتيجي، وثارت على الواقع السياسي المهترئ، الذي وصلت إليه القضية الفلسطينية بمزيد من التنازلات التي تقدمها "السلطة" منذ اتفاق "أوسلو"، فأضعفتها انتفاضة الأقصى وأوقفها جيل انتفاضة القدس الذي اختلفت حساباته عن حسابات المفاوضين وتناقضت ثورته مع مسار التسوية الموهومة ومفاوضاتها العبثية، وأثبتت بأن الفلسطيني لا يتعامل مع الاحتلال إلا باعتباره عدوا مجرما تجب مقاومته.
تعد انتفاضة الأقصى من الأحداث التي غيرت وجه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وامتداداً لتاريخ طويل من المقاومة التي مارسها شعبنا في مواجهة المشاريع الاستعمارية على أرضه، إذ ورثت المقاومة التي خاضها الفلسطينيون في هذه الانتفاضة عدداً من أساليب العمل عن الثورات السابقة، وطوّرتها بشكلٍ يتلاءم مع التحديات التي فرضتها المعادلات العسكرية والميدانية الجديدة، بالمقابل فقد شكلت هذه الانتفاضة اللبنة الأساسية للعمل العسكري، وتطورت المقاومة تدريجيا فأصبحت الفصائل الفلسطينية قادرة على تشكيل مجموعات عسكرية في معظم القرى والمدن في قطاع غزة والضفة الغربية، وطورت كتائب الشهيد عز الدين القسام منظومة سلاحها وتمكنت من إطلاق أول صاروخ فلسطيني محلي الصنع على مستوطنة "سديروت" في 26 أكتوبر 2001، وتطور أداؤها بوتيرة متصاعدة شكلت رعباً للاحتلال وامتدت إلى صناعة صواريخ وصل مداها إلى كبرى المدن الصهيونية.
في حين مثلت المقاومة في الضفة من خلال عملية "إيتمار" البطولية شرارة انتفاضة القدس التي اندلعت كموجة من العمليات الفردية سرعان ما اكتسبت طابعًا ثوريًّا انتقل إلى الجماهير الفلسطينية وأبطالها، لتختلط الدماء الزكية في الضفة الغربية وقطاع غزة بين زمنين بعيدين كلاهما يعبر عن ثورة شعب في وجه الطغيان والعربدة الصهيونية، لتكشف عن حقيقته النازية المتمثلة في قتله للأطفال والعزل.
أعادت انتفاضتا القدس والأقصى للشخصية الفلسطينية بعدها النضالي وأبرزتا الدور الكبير للمفكر الفلسطيني في تحويل مشروع إقامة الدولة الفلسطينية من الممكن التاريخي إلى الممكن الواقعي، فظهرت شخصيات لها الأثر البارز في صياغة المرحلة أمثال الشهداء الشيخ أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي وإبراهيم المقادمة والجمالين والأسيرين أحمد سعدات ومروان البرغوثي، كما سطع نجم باسل الأعرج ومحمد الفقيه، وأبرزت هذه الشخصيات النضالية الدور الكبير في صياغة مفاهيم المقاومة الفلسطينية في مواجهة الاحتلال ورفض عملية التسوية.
تتجدد جذوة الثورات الفلسطينية وتتشكل بحسب طبيعة المرحلة ومتطلباتها فقد بلغت آثارها العمق الصهيوني بعد مراكمة المقاومة لقوتها وتصاعدت وتيرة التطور العسكري وتنوعت أساليبه من العمليات الاستشهادية والعمليات الفردية إلى الصناعات الصاروخية وطائرات الأبابيل ومنظومة العمل الأمنية، وهو ما يعني أن جذوة الانتفاضة الفلسطينية مستمرة في مقارعة العدو ومواجهة اعتداءاته وانتهاكاته في القدس والضفة وغزة والـ 48، وأن ما يحاك فيها لإسكاتها من خلال مشاريع التسوية والتطبيع مع الاحتلال، سيكون ذا طبيعة مؤقتة تؤجل الانفجار وإنهاء الاحتلال إلى أجل ليس ببعيد، ولكنها تبقى فرصة لنجاحاتها المقاومة ومهمة للإعداد والتدريب والتجهيز نحو مواجهة عارمة تعيد الحق الفلسطيني آجلاً أم عاجلا.