في "شارع وطن"، حيث واحد من أكبر التجمعات لإفشال المخطط الانقلابي، كان شاب سوري في مطلع العشرينيات يشارك دون تردد في التظاهر ضد العسكر المقلبين على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، على اعتبار أن تركيا تساند شعبه منذ خمس سنوات، وبالتالي لا بد من "ردّ الجميل"، تلقى الشاب رصاصة في عموده الفقري، وكان "الشلل" هو النتيجة، ومع ذلك لم يكن تعليقه إلا أنه غير نادم على المشاركة في صدّ الانقلاب، وأنه كان سيندم حقًا إن لم يشارك.. واحد من مظاهر رد فعل العرب المقيمين في تركيا على محاولة الانقلاب التي جرت مؤخرًا في الخامس عشر من الشهر الجاري.
هذا المشهد حدّثتنا عنه الصحفية المصرية "رقية حمزة"، وهو، كما تقول، ليس مشهدا وحيدا، فمن السوريين أيضا من وقف أمام الدبابات يخاطب الجنود فيها "مَوِّتني"، ذلك لأن العرب المقيمين في تركيا ارتأَوْا أن الدفاع عنها "واجب" فهي التي فتحت أبوابها للمستضعفين في بلدانهم، وآوت الملايين منهم في السنوات الخمس الأخيرة، أو كما قال رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو: "تركيا هي الحصن الأخير للمظلومين, يريدون تخريبه ولن نسمح بهدمه".
"فلسطين" حاورت عبر الهاتف الصحفية المصرية في قناة "TRT" التي اقتحمها الانقلابيون وأعلنوا الانقلاب عبر شاشتها للتعرف إلى شكل تفاعل العرب المقيمين في تركيا مع محاولة الانقلاب..
ملجؤهم الأخير
وتقول رقية: "من اللحظة الأولى لإعلان الانقلاب في تركيا، نزل العرب _بمختلف جنسياتهم وتوجهاتهم السياسية_ إلى الشوارع استجابة لدعوة الرئيس أردوغان من جهة، ومن جهة أخرى لأن تركيا هي الحاضنة لكثير من العرب، ولأنها الدولة الوحيدة التي فتحت أبوابها للاجئين والمظلومين من مختلف أنحاء العالم"، مضيفة: "فكر الجميع في مصير هذه الملايين إن نجح الانقلاب، وفي ضرورة دعم البلد الذي فتح أبوابه لهم وكان ملجأهم الأخير، فنزلوا وتفاعلوا مع المتظاهرين في مختلف أماكن التجمعات، حتى التي شهدت إطلاق نار، وأُصيب عددٌ منهم".
وتضيف: "قرر العرب بشكل عفوي أن يدعموا الدولة التي استضافتهم وأن يساعدوها في الحفاظ على أمنها واستقرارها، وبقوا في الشوارع حتى تبيّن أن الانقلاب فشل، وأن الأوضاع في طريقها إلى الاستقرار، وحاليًّا هم يشاركون في المظاهرات يوميًّا، ليكونوا جنبًا إلى جنب مع الأتراك وليؤكدوا لهم أنهم سيقفون معهم في قضيتهم هذه".
وتتابع: "الأحداث التركية حاليًّا هي محطّ أنظار العالم كله، وخاصة العرب الذين يتابعونها لحظة بلحظة، ولذا فإن تغطية الأحداث وتحليلها هي من مظاهر التفاعل العربي الأخرى، وذلك بطرق مختلفة".
وتبين ضيفتنا أن الصحفيين العرب المقيمين في تركيا يركزون كتاباتهم في الوقت الحالي على تغطية محاولة الانقلاب وما تبعها من أحداث، وتحليلها، ونشر الأخبار أولًا بأول عبر مواقع التواصل الاجتماعي سواء بكتابة المنشورات أو باستخدام خدمة البث المباشر لنقل المظاهرات والفعاليات مباشرة، إلى جانب ترجمة الأخبار من التركية إلى العربية، والتواصل مع وسائل الإعلام الغربية لنقل حقيقة ما يجري في تركيا.
وتوضح: "الإعلام التركي محلي بحت ولا يخرج للعالم، لذا نحن نحاول أن نوصل الحقيقة، ونقوم بدورنا كصحفيين لنا علاقات مع الصحافة الأجنبية، خاصة أن الكثير من الدول الغربية تسعى لتشويه سمعة الحكومة التركية ودعم الانقلاب بطرق متعددة منها نشر أخبار كاذبة عبر الإعلام الغربي، والعربي أحيانًا"، مؤكدة أن العرب بذلك ساهموا في نقل الصورة الحقيقة وتوضيح طبيعة ما يجري وما تتعرض له تركيا، وأن كثيرًا من التقارير والصور التي خرجت من تركيا كانت عن طريق نشطاء عرب.
نموت لأجل بلادهم
وتلفت إلى أن مواقع التواصل والوسائل الحديثة ساعدت بشكل كبير في ممارسة هذا الدور، فهي التي كان لها دور أساس منذ بداية الانقلاب، بدءًا من المكالمة التي أجراها الرئيس أردوغان مع إحدى القنوات التلفزيونية باستخدام برنامج "فيس تايم"، بالإضافة إلى أن العرب العارفين باللغة التركية يترجمون الأخبار منها إلى العربية وينشرونها عبر حساباتهم على مواقع التواصل، لينشرها الآخرون، واصفةً هذه المواقع بأنها بعد المحاولة الانقلابية أشبه بـ"القرية الصغيرة"، حيث جمعت الناس من مختلف أنحاء العالم، وساهمت في حث الناس _ومنهم العرب_ على التواجد في الشوارع لدعم الشرعية.
نزول العرب إلى الشوارع ومساهمتهم في نقل الحقيقة.. كيف يراه الأتراك؟، تجيب حمزة: "نعيش مع الشعب التركي كإخوة، وعندما شاركناهم التظاهر كان هذا باعث استغراب جعلهم يتساءلون عن سبب وجودنا واستعدادنا للموت لأجل بلادهم، فكنّا نؤكد أننا معهم لندافع عن الديمقراطية والحرية، ولأننا جربنا الانقلابات ولا نريد لتركيا أن تمر بهذه التجربة المريرة، وأننا سنقف معهم في قضيتهم الحالية كما وقفوا سابقًا معنا في قضايانا الخاصة، فكانوا ينظرون لنا على أننا إخوة وأننا نساندهم كما ساندونا".
وتواصل حديثها: "العرب وقفوا وقفة مشرّفة، والأتراك قدروا هذا التضامن تمامًا، وكما يقول لنا بعضهم فهم لم يتوقعوا أن يشاركهم العرب التظاهر وأن يحموا بلدهم مثلهم".
وتنوه إلى أن المشاركة ليست في التظاهر فقط، بل أيضا بعض العرب يتوجهون في مجموعات إلى المستشفيات للتبرع بالدم للمصابين الأتراك، هذا عدا عن الإصابات في صفوف المتظاهرين العرب، ذلك لأن "دمنا واحد، وأصولنا واحدة، وهدفنا واحد، وقضيتنا واحدة".
علاقة أفضل
هذا التضامن له انعكاساته على علاقة العرب المقيمين في تركيا بشعبها، كما ترى حمزة، والتي تأتي بخلاف ما كان سيحدث في حال نجاح الانقلاب، موضحة: "مجرد نجاح الانقلاب يعني أن السوريين ليس لهم مكان في تركيا، وأن العرب مضطرون للبحث عن وطن جديد، وغالبًا لن يجدوا، خاصة المظلومين الذين ليس لهم مكان آخر، ولا يمكنهم العودة إلى بلادهم، فضلًا عن كل المظاهر السلبية التي ستمس الأتراك من قتل واعتقال وقمع للحريات، وبالتأكيد سيطال العرب هذا التأثير".
وتبيّن: "فشل الانقلاب حمى العرب من هذه التأثيرات، وبدلًا من أن يبحثوا عن وطن آخر، فهم سيبقون في تركيا في ظل علاقة أفضل وأقوى مع شعبها الذي يقّدر وقفة العرب معه في هذه الفترة"، مشيرة إلى أن "الفترة الأخيرة شهدت محاولات لإثارة الفتنة بين الأتراك والعرب، وبالذات السوريين منهم، لكن بعد فشل الانقلاب اختلفت الموازين وانقلب السحر على الساحر، وتغيرت الصورة تمامًا، خاصة أن الأتراك شاهدوا بأم أعينهم أن السوريين هم الداعم الأكبر لهم، مما غير الفكرة السائدة، فبعد أن كان البعض يطالب بإعادة السوريين إلى بلادهم، أصبح الكل يؤكد أنهم إخوة".
بلدنا الثاني
على الصعيد الشخصي للمواطن العربي المقيم في تركيا، كان الانقلاب سببا في استرجاع شريط ذكريات مؤلمة، وباعثا على القلق مما بعده في حال نجاحه، أضف إلى ذلك التفكير في البحث عن ملاذ آخر بسرعة، أو البقاء في تركيا والدفاع عنها، وعن ذلك تقول: "كثيرٌ من العرب فكروا في اللحظات الأولى أن لا وطن لنا، فماذا نحن فاعلين، ومنهم من فكر بحزم أمتعته والسفر إلى دولةٍ أخرى، وآخرون كانوا على قناعة بأن تركيا أصبحت بلدًا لهم وعليهم أن يدافعوا عنها حتى آخر قطرة من دمائهم، فكان التفكير يتراوح بين الخروج إلى بلد آخر لأننا نعرف ما معنى حكم العسكر وما تبعاته، وبين البقاء فيها لكونها فتحت أبوابها على مصراعيها لكل العرب فليس من المعقول تركها في وقت عصيبٍ كهذا".
وتضيف: "بين التفكير في البلد التي آوتنا، وفي أنفسنا، كانت الغلبة في القرار لصالح الدولة التي وقفت في مواجهة العالم كله لأجل ملايين العرب"، مؤكدة: "في هذه اللحظة توقف العقل عن التفكير، لم نكن نفكر في شيء سوى مصير تركيا، وكنا كلّما اتصل بنا ذوونا من خارجها نجيبهم بأننا لا نعرف كيف تسير الأمور ولكن الانقلاب سيفشل بكل تأكيد، وهذا من منطلق أن الأتراك تعرضوا لأربعة انقلابات ويعرفون جيدًا معنى الانقلاب العسكري ولن يسمحوا بنجاحه مرة أخرى".
تجربة العرب في مواجهة الظلم كانت خبرة يمكن الاستفادة منها بالنسبة للأتراك، كما توضح حمزة: "فور سماعي بيان الانقلاب، رجع بي شريط الحياة إلى انقلابات حدثت في دول عربية، قلت في نفسي مستحيل، نحن في تركيا، ولن يتكرر فيها المشهد، وقلنا للأتراك إننا يجب ألا نترك الميادين، فتركها يعني أن العسكر سيطروا على البلد، وكنا كمن يمشي حاملًا كفنه، وكان الأساس عندنا ألا نحاف من العسكر ونتحلى بالشجاعة، وهذا ما قلناه للأتراك".
ولكن هذه الخبرة العربية كانت مليئة بالخلافات والظلم، وهذا ما جعل رد فعل الشعب التركي "مُبهرًا" بالنسبة لهم، وبحسب حمزة فإن أكثر ما لفت العرب كان الالتحام بين الأحزاب السياسية المختلفة رغم معارضة بعضها للحكومة، فالكل نحّى الخلافات جانبًا، وفضّل مصلحة الوطن على المصالح الشخصية"، موضحة: "رأينا الإسلاميين والعلمانيين والأكراد يقفون جنبًا إلى جنب، يفكرون في مستقبل الوطن".
وتؤكد: "علينا أن نتعلم من التجربة، ونطبق ما نستفيده منها على أرض الواقع، دون أن نبقى في موضع المتفرج..".
وتلفت حمزة إلى أنه "مما علينا أن ندركه أيضًا أنه مما ساعد في إفشال الانقلاب، التعليم والثقافة، الغائبان عن كثير من المجتمعات، وليس فقط التعليم في المدارس، بل أيضًا تعليم السياسة ومعنى الحرية".