حدثني أحد الوزراء في حكومة الوفاق على هامش أحد اللقاءات، عن حادثة لها دلالات تشير إلى الرسالة التي أود إيصالها من خلال هذا المقال للقارئ الكريم.
ذكر لي ذلك الوزير( وهو حسب علمي كان مقربا جداً من توني بلير وتربطهما علاقة صداقة وثيقة) أنه في عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات عانت السلطة الفلسطينية من عجز مالي كبير لدرجة انها عجزت عن دفع رواتب الموظفين، فأوفد أبو عمار أحد مقربيه لاحد أغنى الدول الخليجية بطلب عاجل لمساعدة مالية للسلطة، وبالفعل توجه ذلك الشخص لتلك الدولة حاملا رسالة ياسر عرفات بالإغاثة العاجلة للشعب الفلسطيني، استقبل زعيم تلك الدولة مبعوث عرفات واستمع جيدا إلى رسالته التي يحملها وأبدى موافقته على الطلب، ولكنه طلب مهلة لإجراء مكالمة مع الرئيس الأمريكي بوش الابن في ذلك الوقت، وبعد أن تم التواصل وفقا لظروف الرئيس الأمريكي بإجراء المحادثة، وبعد أن استمع بوش لزعيم تلك الدولة الذي أخبره بنيته التبرع للفلسطينيين بمبلغ من المال لسد العجر الكبير في موازنة السلطة، طلب الرئيس الأمريكي من ذلك الزعيم التواصل مع مستشارة الأمن القومي الأمريكي كونداليزا رايس في ذلك الوقت لانشغاله من جانب ولأنها هي المسؤولة عن هذه الملف من جانب آخر، وبعد أن تمت المكالمة بين الزعيم وكونداليزا، أبدت الأخيرة موافقتها على طلب الزعيم على ألا يزيد المبلغ عن 50 مليون دولار فقط، وأن يتم التسليم من خلال الجامعة العربية، وعلى الفور وضع الزعيم طائرته الخاصة تحت تصرف مبعوث أبو عمار للتوجه من فوره للقاهرة لاستلام المبلغ من الجامعة العربية، هبط مبعوث عرفات في القاهرة وكان في استقباله امين عام الجامعة العربية في ذلك الوقت عمر موسى، وما إن تشابكت يدا الرجلان للمصافحة حتى انفرجت شفتا عمر موسى عن جملة ساخرة باللهجة المصرية( هما خمسين مليون مفيش غيرهم).
هذه القصة تشير إلى ان معظم الدول العربية إن لم يكن كلها لا تستطيع أن تتخذ أي قرار يتعلق بالقضة الفلسطينية إلا بإذن من السيد الأمريكي وموافقته، وبالطبع بعد التنسيق الكامل مع الاحتلال الصهيوني الذي يوعز لهذه الدول بالتعامل مع الفلسطيني وفقا للرؤية الصهيونية التي لا ترى في الشعب الفلسطيني الا مجموعة من الغوغاء الذين يجب التخلص من غوغائيتهم بالوسيلة المتاحة وفقا للظروف التي تمر بها المنطقة، فقد تستخدم دولة الاحتلال ضدهم القوة العسكرية حينا وقد تستخدم الوسائل الدبلوماسية بالتعاون مع أصدقائها حينا وقد تستخدم المال حينا آخر، المهم أن معظم الدول العربية تعمل وفقا للمنظومة الصهيونية ووفقا لمصلحة الاحتلال الذي يحرك بعض الدول العربية مباشرة كوكلاء له والبعض الاخر من خلال الإدارة الامريكية، ومما لا شك فيه أن الدول العربية تعلم وهي تنفذ الإملاءات الأمريكية أنها تنفذ الرغبات الصهيونية بالدرجة الاولى وإن كان من خلال التوجيهات الامريكية.
بالعودة لقضية التطبيع العربي مع "إسرائيل" فالأمر لا يعدو كونه كشفا للعلاقة القائمة وممارستها بشكل علني ودون أدنى مواربة، وهذا بحد ذاته أمر جيد لنا كفلسطينيين، حتى لا ينخدع البعض منا أو تلتبس عليه المواقف المتباينة لهذه الدول المطبعة، ولنعلم أنها تتخذ مواقفها وفقا للمصلحة الصهيونية وان غُلفت بالرغبة في مساعدة الفلسطينيين أو التضامن معهم (كما صرح وزير خارجية الإمارات أن توقيع اتفاقية إبراهيم لمصلحة الفلسطينيين) وحبائل السياسة طويلة ولا نهاية لها.
يدرك الصهاينة أن ما يقومون به من كشف علاقة امتدت لأعوام طويلة ليس له تأثير كبير على مسار الصراع الفلسطيني الصهيوني، فالعلاقة كانت قائمة على كل الأحوال ووفقا للمصالح الصهيونية، وربما كان إخفاء العلاقة قبل ذلك خيرا للصهاينة من كشفها، وذلك لتمرير المواقف العربية المطلوبة وفقا للرغبات الصهيونية، وما يدركه الصهاينة أيضاً ان كشف هذه العلاقة اليوم لن يؤدي إلى إنهاء الصراع الفلسطيني الصهيوني أو تصفية القضية الفلسطينية وفقا لما تم التوقيع عليه بين الاحتلال وهذه الدول بقدر ما يؤدي إلى النيل من الإرادة الفلسطينية ومحاولة ضرب عوامل الصمود الفلسطيني واخضاعه للإملاءات الصهيونية.
أيضا ما تدركه الدول المطبعة أن تصفية القضية الفلسطينية بالشكل الذي ترغب به دولة الاحتلال لن يكون على يد الدول المطبعة فهي أصغر بكثير من أن تلعب هذا الدور، ولن تستطيع تلك الدول أو الدويلات التي تبعد عن فلسطين آلاف الكيلو مترات أن تفرض على الفلسطينيين ( الذين بنوا تلك الدول ووضعوا أسس نهضتها الحضارية والعمرانية) أن يقبلوا بذلك ولا تعدو محاولات تلك الدول إلا كنفخ في كير الاحتلال لزيادة لهيبه أملا في صهر عزيمة الصمود الراسخة في وجدان الشعب الفلسطيني خاصة من آمن منهم بمسار السلام والتزم بالمقررات العربية التي دعت للسلام وسوقت له، اليوم يقف الفلسطيني وحده كما وقف دائماً، ولكنه يعلم جيداً أنه يحارب معركته وحيداً، وعليه أن يتسلح بوحدة الموقف الداخلي، وأن يستجمع قواه ينبذ الفرقة التي ساهمت في وجودها دول عربية، وأن يحدد أولويات معركته مع عدوه حتى لو مر قطار التطبيع على عدد آخر من العواصم العربية، فالصراع في أصله فلسطيني ولن ينتهي إلا برضى الفلسطيني ووفقا لهواه. ولكن سيعرف الفلسطيني مساره الوطني جيداً دون تعتيم أو تشويش من هذه الدول، ولن تخدعنا شعارات التضامن العربي أو العمل العربي المشترك أو اتفاق الدفاع العربي المشترك أو حتى مقررات الجامعة العربية التي اتضح اليوم أنها مجرد سراب كان يحسبه الفلسطيني ماء.