اهتم بعض الكتاب والباحثين والسياسيين باسم أول طائرة إسرائيلية عبرت سماء السعودية، وحطت على أرض الإمارات العربية، واقتصر التعليق على أن اسم الطائرة "كريات جات" مأخوذ من اسم مستوطنة صهيونية أقيمت على أراضي قريتي الفالوجة وعراق المنشية المغتصبتين سنة 1948، وحاول البعض أن يربط بين التسمية ومعركة الفالوجة التي انتصر فيها الجيش الإسرائيلي على الجيش المصري سنة 48، وذهب بعض الكتاب إلى الربط بين التطبيع وتطور مستوطنة كريات جات في مجال التكنولوجيا، ولكن الجميع تجاهل العمق التاريخي لتسمية المستوطنة ذاتها باسم "كريات جات"، ومن ثم الرمزية التوراتية لتسمية الطائرة "كريات جات"، واختيارها لعبور سماء الجزيرة العربية.
للأسماء عند الصهاينة دلالاتها، فهم يختارون أسماء المدن والقرى والأماكن والمصانع والأسلحة والشركات والأشياء بدقة جغرافية وتاريخية تنسجم ومعتقداتهم، فلكل اسم مناسبة أو حكاية أو مرجعية تاريخية أو توراتية، وقد أقام الصهاينة قبل قيام دولة إسرائيل بعشرات السنين، "صندوق استكشاف فلسطين" الذي قام بعملية مسح للبلاد بين 1871-1877، وجمع أسماء المواقع القديمة والخرائب والقرى، وأعدَّ قوائم للأسماء تحوي أكثر من 10 آلاف اسم، جرى مواءمتها مع الأسماء التي وردت في كتابهم الديني "التناخ".
ولتأكيد روايتهم الدينية، يزعم الصهاينة أنهم يقيمون مستوطناتهم في أرض فلسطين على إرث الأجداد، من هنا جاءت تسمية مستوطنة "كريات جات"، والتي تعني بالعبرية المعصرة، وترجع تسميتها إلى مدينة "جات" إحدى المدن الفلسطينية الخمس التي وردت في كتاب التناخ اليهودي، وتتميز مدينة "جات" التاريخية بأن سكانها كانوا من العماليق، وفيها ولد "جالوت" الجبار وغيره من رجال الجبابرة الفلسطينيين، و"جالوت" الجبار هذا هو الذي قتله داود، وفق رواية كتاب العهد القديم "التناخ".
ذاك التاريخ المزيف، استدعاه الصهاينة في الزمن الراهن، لكي يمرروا أكذوبة العودة إلى أرض الآباء، وإقامة المستوطنات في أماكن أقام عليها أجدادهم قبل ثلاثة آلاف عام، ومن ثم أضافوا إلى الأسماء القديمة لفظة "كريات" وتعني بالعربية "قرية"، وهذا ما حصل مع "جات" المدينة الفلسطينية التي انتصر عليها داود، وضمها إلى مملكته، والتي حملت اليوم اسم مستوطنة "كريات جات"، ولتأكيد مصداقية كتبهم الدينية المقدسة التي وعدتهم بالنصر، وتوثيقًا لحقوقهم التوراتية في بلاد العرب، تعمدوا تسجيل اسم "كريات جات" على أول طائرة إسرائيلية تعبر سماء الحجاز.
مستوطنة كريات جات الحالية لا يتعدى سكانها 50 ألفًا، وهي مستوطنة إسرائيلية لا تتميز كثيرًا عن آلاف المدن والقرى والمستوطنات والتجمعات السكنية لليهود، فالمستوطنة "كريات جات" لا تشكل ثقلًا اقتصاديًّا، ولا هي منارة ثقافية أو تجارية أو علمية تتميز عن بقية التجمعات اليهودية، ولم يتم تكريمها بتسجيل حروف اسمها على أهم طائرة سياسية إلا للتأكيد بأن للتاريخ والمعتقد لدى الصهاينة قيمة معنوية ورمزية تفوق بكثير قيمة المكان المادية، لذلك تم تطريز اسم "كريات جات" على واجه الطائرة التي مرت فوق مكة المكرمة والمدينة المنورة في طريقها إلى أرض الإمارات.
إن العمق التاريخي لتسمية أول طائرة تحط على أرض الإمارات يعكس الحلم اليهودي في دولة أوسع من دولة إسرائيل السياسية؛ التي حددتها اتفاقية سايكس بيكو، فانتساب أرض "جات" إلى ممالك اليهود كما يزعمون يعكس الحلم بالتمدد حتى حدود الدولة التي أقامها داود على أقل تقدير، والتي تتجاوز بمساحتها مساحة دولة إسرائيل الحالية، فدولة داود عبرت نهر الأردن شرقًا، وعبرت نهر الليطاني شمالًا، وهذا يؤسس للمستقبل، والحلم بدولة إسرائيل التوراتية، والتي تتجاوز حدود دولة داود التاريخية، لتمتد من النيل إلى الفرات.
"كريات جات" تعني العودة إلى الماضي على طريق تحقيق الذات في الزمن الحاضر، فالتسمية تقول للعرب: لقد عدنا بعد غياب، لقد ولدنا من جديد، وبعثنا الماضي السحيق، ونحن نستدعي التاريخ؛ لنؤكد لأنفسنا كيهود صدق عقيدتنا؛ وهذا أولًا، ولنؤكد لكم يا عرب باطل معتقداتكم، وفساد واقعكم السياسي.
فهل أدرك ابن زايد وهو يستقبل طائرة "كريات جات" بسعادة تفوق قدرة الإمارات على البهرجة، هل أدرك الأبعاد السياسية والعقائدية التي يحيكها الصهاينة ضد الشرق وضد الأمة العربية؟ أم أنه غافل عما يمكرون؟