يقلب أيمن (38 عامًا) أوراقًا صفراء قديمة عبث بها طول السنين لكنها الوحيدة التي تثبت هويته الفلسطينية التي افتقدها منذ أن قتل والداه في أبشع مجزرة شهدها العالم، مجزرة صبرا وشاتيلا سنة 1982م، التي تزامنت ذكراها هذه السنة وتطبيع دول عربية مع الاحتلال الإسرائيلي.
ولد أيمن ديراوي في مخيم صبرا وشاتيلا بلبنان في 11 حزيران (يونيو) 1982م، لكن والديه الفلسطينيين عائشة وعبد الرحمن ديراوي استشهدا خلال المذبحة التي نفذتها مليشيات لبنانية تحت رعاية الاحتلال الإسرائيلي آنذاك، وبقي رضيعهما ذو الأشهر الثلاثة في المخيم.
مرت 38 عامًا على المجزرة التي راح ضحيتها آلاف الفلسطينيين، فلم يستثن الصهاينة وحلفاؤهم أحدًا إذ قتلوا كل من وجدوه بالمخيم، شيبًا وشبابًا، نساء ورجالًا، مدة ٣ أيام متواصلة، منهم والدا أيمن (بن هادية) أو أيمن عبد الرحمن ديراوي الاسم الفلسطيني الحقيقي.
يقول أيمن للجزيرة نت: "حسب الرواية التي وصلت إلي إن والدتي خبأتني داخل إناء قبل أن تموت وحال انتهاء المجزرة أخذتني منظمة التحرير الفلسطينية بسوريا أنا وثلة من الأطفال الناجين، وحسب الوثائق الموجودة لدي إنني بقيت مدة 3 أشهر فقط هناك، ثم تولى والدي "المتبني" التونسي الجنسية استثنائي من المنظمة والعودة بي إلى محافظة سوسة التونسية حيث ترعرعت".
صدمة الحقيقة
عاش أيمن حياة طبيعية وسط عائلة ميسورة الحال وأبوين غمراه حبًا وعطفًا، الأمر الذي لم يدع له مجالًا للشك في كونه ابنًا متبنى، يقول: "عشت أطيب حياة مع والدي المربي عبد القادر بن هادية ووالدتي المربية سميرة بن عبد السلام، ولم أحس مطلقًا أنني لست ابنهما البيولوجي، حتى من العائلة الموسعة لا أحد أخبرني بقصتي الحقيقية".
سنة 2005م توفيت والدة أيمن دون أن تخبره بشيء؛ لكن شاءت الأقدار أن يعرف هذا الشاب هويته الحقيقة، فبينما يبحث عن شيء في الخزانة وجد وثائق وأوراقًا قديمة؛ فدفعه الفضول ليقرأ فحواها.
يقول للجزيرة نت وعلامات التأثر بادية على ملامحه: "عندما قرأت أوراق هويتي ذهلت وصدمت؛ فليس من الهين على المرء أن يكتشف أن والديه ليسا والديه البيولوجيين بعد كل تلك السنين، والأمرّ من ذلك أن يعلم أن أمه وأباه الحقيقيين قتلا في مجزرة بشعة كمجزرة صبرا وشاتيلا".
البحث عن العائلة
واجه أيمن والده عبد السلام بتلك الأوراق وطلب منه تفسيرًا يشفي غليله، لكن الرجل المسن أغدق في البكاء، فوعده بألا ينبش في الموضوع مجددًا وأنه سيبقى معه ما دام على قيد الحياة.
بعد وفاة والده سنة 2012م أحس أيمن بالوحدة، حتى أقارب والديه ابتعدوا عنه ولم يعد يربطه بهم شيء؛ فقرر فتح ملف هويته والبحث عن عائلته الحقيقية رغم صعوبة الأمر، فكل أوراقه الرسمية تثبت أنه تونسي الجنسية.
رحلة البحث
جمع أيمن جميع الأوراق التي وجدها في خزانة أمه المربية بعد وفاتها، ورغم حالتها الرثة احتفظ بها وحاول نسخها عدة مرات، فالغريق يتشبث بقشة على حد قوله، وتلك الأوراق البالية هي كنز له، فلا شيء أغلى على المرء من هويته وجذوره ووطنه، مهما ابتعد عنه.
انطلق الشاب في رحلة بحث لا يعلم نهايتها لكنه متيقن من وجود خيط يوصله إلى أحد أفراد عائلته، تقدم بطلب إثبات هوية والحصول على جواز سفر فلسطيني إلى جميع الإدارات المختصة في هذا الشأن في تونس وخارجها؛ لكنه لم يجد ردًا كافيًا يطمئنه، إذ كانت مجرد وعود حسب قوله.
في مقبرة صبرا وشاتيلا
سافر أيمن إلى لبنان خصيصى للبحث عن أحد أقاربه وزيارة قبري أمه وأبيه، يقول للجزيرة نت: "إحساس مؤلم انتابني حال وصولي إلى مقبرة شهداء صبرا وشاتيلا، فهي جماعية، ما يثبت العدد الكبير للشهداء، قرأت الفاتحة على أرواحهم ومضيت وبداخلي حزن ممزوج بنوع من الفخر، فأنا ابن شهيدين وقدمت أغلى ما لدي للقضية الفلسطينية ويحق لي اليوم المطالبة بإثبات هويتي".
فكلما شتتهم الاحتلال زاد إصرار الفلسطينيين على التشبث بهويتهم والافتخار بوطنهم المغتصب وجذورهم الممتدة فيه امتداد شجر زيتونهم المعمر، غير مهتمين بأولئك الذين يحثونهم على مد ما تسمى يد "السلام" للصهاينة.