فلسطين أون لاين

"عبد الله هليل" من "الأوروبي" إلى "الصداقة" .. حكيم على سرير المرض

...
غزة - يحيى اليعقوبي

اليوم الأخير له بالمشفى بما يحمله من ثقل يوشك أن يطوي صفحته الأخيرة وتغرب شمسه؛ الحكيم عبد الله هليل متشوق لرؤية أطفاله ومعانقتهم، بعد انتهاء مدة انتدابه لصفوف "الجيش الأبيض" في الخطوط الأولى لمواجهة فيروس كورونا بمستشفى غزة "الأوروبي"، متشوق كذلك لرؤية والده المريض الذي يسهر على رعايته، بعد أن ينهي مدة حجر أخرى، كانت أبعد تقديراته أن سعاله منذ أيام شيء طبيعي نتيجة الطقس.

الخميس؛ تقترب نتيجة فحص الطاقم الطبي الذي أنهى عمله، الجميع في ترقب، وتوتر لا إرادي، مثل شعور طلاب ينتظرون علامات امتحاناتهم النهائية، حتى ظهرت النتيجة سلبية (غير مصابين) لجميع أفراد الطاقم، وقبل أن تنطلق مراسم الفرح والتصفيق عكرت نتيجة الممرض هليل التي ظهرت "موجبة" (مصاب بالفيروس) هذه الأجواء.

"كيف؟! ولماذا؟! وقد كنت ملتزمًا بإجراءات الوقاية" أسئلة باغتته، على وقع "الصدمة"؛ فقد كان الممرض الوحيد من بين زملائه المصاب بالفيروس، لينقل إلى مستشفى "الصداقة" التركي، وهذه المرة ليس لمعالجة المصابين بل لتلقي العلاج، فاستقبل النتيجة بمرارة كبيرة لأنه لن يرى أطفاله، ورضا في الوقت نفسه، لأنه عدّ ذلك ضريبة وثمنًا لتضحيته في عمله.

الصدمة الأولى

لا يخفي هليل كيف كان وقع الإصابة صعبًا عليه: "في غمرة الشوق لرؤية أطفالي، جاء الخبر، فاسودت الدنيا في وجهي وكان الأمر صادمًا؛ لكني رضيت وحمدت الله فهذا واجبي ممرضًا تجاه أبناء شعبنا، والآن أنا في مستشفى الصداقة التركي لتلقي العلاج".

من الأشياء التي هونت عليه مرارة الحجر؛ في غرفة معزولة، تواصل زملائه معه وأبناء عائلته ورؤساء ومديري مستشفى "غزة" الأوروبي، عبر الهاتف أو من طريق وسائل التواصل الاجتماعي، فقد كان لذلك أثر في كسر حاجز الوحدة، وإمداده بطوق النجاة من مستنقع العزلة: "أصدقائي يحدثونني من طريق الإنترنت على مدار اليوم، فلا أشعر بالوحدة، كما أنني أشعر بتحسن كبير".

هذه المرة يعود إلى مستشفى غزة "الأوروبي" مستذكرًا لحظات انتدابه الأولى: "استدعيت للانضمام إلى الطاقم الطبي (...) بدأت العمل، وأكثر شيء كان متعبًا هو ارتداء الغطاء الطبي الذي يستغرق وقتًا كبيرًا، كما أنه يزيد من درجة حرارة الجسم مع ارتفاع الحرارة والرطوبة أصلًا".

ما كان يهون الأمر عليه هو انشغاله في معالجة المصابين، يبتسم: "كنت أنسى أي شيء يضايقني في أثناء العمل والتعاون مع الزملاء وهم يبذلون جهدًا كبيرًا للقيام بواجباتهم على أكمل وجه، كما أننا أسرة واحدة بمجرد أن نسمع أن هناك أي مريض نتسابق إليه لتلبية طلباته وتخفيف أوجاعه، بدورهم يدعون لنا بالتوفيق والسلامة، كنا نحزن لوفاة أي شخص بهذا المرض بشدة، خاصة أننا تعاملنا معه".

وداع مفاجئ

"كيف صورة الأشعة؟" المريض بالفيروس يسأله، والممرض هليل يحاول طمأنته: "حالتك ممتازة يا حاج، أنت في تحسن"، مع أن حالته كانت حرجة ويعاني صعوبة في التنفس.

ترك ذاك المريض غصة في قلبه: "كان كبير السن، حدثنا عن حياته، وكان يخطط ماذا سيفعل بعد شفائه وخروجه من المشفى (...) وبينما كنت في سكن الطاقم الطبي وخلعت الغطاء الطبي بعد انتهاء "الشفت" (مدة العمل اليومية) وصل إلي خبر وفاته، وكان وقع الخبر صعبًا على قلبي، ذلك المريض كان يتشبث بالحياة والأمل، يصارع الفيروس حتى آخر لحظة، لكنه -يا للأسف!- نال منه في النهاية ورحل، وما أحزنني أكثر أنني لا أستطيع ارتداء الغطاء الطبي لأذهب إلى رؤيته".

في عمل الطاقم الطبي؛ عليك أن تعتاد كل ما هو غير مألوف، وكل ما هو صعب، قد يكون المريض يتحدث إليك وفجأة تحدث له انتكاسة، أو التعامل النفسي الصعب كما في هذه الحالة التي يحدثنا عنها هليل: "مررنا بمواقف عدة، منها تذمر الشباب المصابين من المرض وشعورهم بالملل والحجر الطويل، وأحيانًا يستفزوننا".

يعلق على ذلك:" كنا نتفهم الأمر ونتعامل معهم من هذا الجانب، ونعد لهم الشاي ونشجعهم لكسر الروتين".

أما الطاقم الطبي نفسه فكان يطاله نصيب من الملل، لكن انغماسهم بالعمل أشغلهم عن هذا الشيء، فالمعركة هنا متواصلة، والمصابون يتوافدون إلى أرض المستشفى كل يوم، ما يزيد ضغط العمل عليهم، بذلك يمتلئ الجدول لديهم، أما في داخل غرفهم فيخرجون من هذه الأجواء، بمناقشة قصص كل واحد منهم مع المرضى، ولا تخلو هذه الأجواء من المزاح.