لأبدأ اليوم مقالتي بهذه القصة القصيرة:
رن الهاتف وأنا أسير بسيارتي على دوار الساعة وسط مدينة رام الله، لم أنتبه إلى مصدر المكالمة وفتحت الخط حيث كان موصولًاا بسماعة السيارة الخارجية:
كأنك تقود السيارة؟ أعود إليك فيما بعد؟
لا ، أسمعك على السماعة الخارجية.
أكيد أنت الآن في الطريق من المكتب إلى البيت، كيف كان يومك؟
"في هذه الأثناء تعالى صوت ولدي في المقعد الخلفي فصحت بهم طالبًا منهم الصمت".
يومي عزيزي روتين قاتل، أستيقظ مبكرًا لتوصيل أبنائي إلى مدارسهم، ثم الوظيفة والعمل، ثم الرواح والغداء والاستعداد للمناسبات الاجتماعية وأحيانًا قضاء فسحة هنا أو هناك. ولكن قل لي: من معي على الخط، صوتك خفي علي.
أنا صديق قديم، سيارتي ثابتة مكانها لم تتزحزح قيد أنملة منذ خمس وعشرين سنة، أحيانا ننزل منها إلى سيارة حديدية صماء لا تعرف طريقًا إلا من سجن لآخر اسمها "البوسطة"، لنا روتين يختلف عن روتينك القاتل، أنت تصحو لإيصال أبنائك إلى مدارسهم، أنا منذ خمس وعشرين سنة لم أحظَ بإيصالهم ولا مرة واحدة، أنت تصيح بأبنائك وتخرج لهم عصبيتك، أنا لو رأيت طيفهم في المنام تنتعش روحي أسابيع وأنا أستحضر ما رأيته منهم في منامي، أين روتينك القاتل من روتيننا؟ تغدو وتروح بسيارتك فسحة هنا وفسحة هناك، نحن نغدو ونروح في المسافة الواقعة بين "البرش" وبوابة الغرفة التي تغلق وتفتح بأمرهم والنافذة الكئيبة، وإن طالت بنا الطريق فلنا أن نوجه أشرعتنا نحو "الفورة" لنسافر هناك ثم نتحرك الحركة الدائرية مثل البرغي "البايز" كما وصفها أحد الأسرى، تدور وأنت في مكانك ليكون نهاية المطاف البرش السعيد. أنت تذهب إلى الأسواق لتشتري ما تشاء وتقرر غداءك وعشاءك وضيفك ومضيفك وصلة رحمك ومسجدك وصحبة من تختار من خلق الله، نحن مفروض علينا كل شيء كأننا مسيرون لا خيرة لنا في كل ما عددت من أمور، هذا حالي صديقي مع هذا الروتين منذ خمس وعشرين سنة. ثم سيارتي المتجمدة في مكانها من نوع "برش" لا وقود فيها ولا طاقة لها ولا عجلات ولا طريق ولا سبيل، سيارة عمرها خمس وعشرون سنة وما زالت صفر كيلو، لا نوافذ لها ولا فتحة سقف ولا شاشة ولا كاميرا ولا أي إضافات، سيارتي لا أفق لها إلا ما نفتح نحن من نافذة على كتاب أو تسبيحة مع رب العباد.
يا عزيزي أنت وصفت روتينك بالقاتل فكيف نصف روتيننا؟
تقطع الصوت وسمعت صاحبي ينسحب مسرعًا:
وصل العدد يا صديقي وما أدراك ما العدد، امضِ في طريقك واحمد الله على روتينك واسأل الله لنا الفرج والخلاص.
ماذا عساي أن أعلق على هذه المكالمة؟
لا حياة لنا ولا كرامة ولا مكانة ولا سيادة ولا حرية ولا استقرار ولا استقلال إلا بحرية أسرانا الأحرار.