فلسطين أون لاين

أجواء تكسر روتين الملل

من "شبابيك الفرح" .. "فداء اللداوي" يروي "عطش الأطفال" إلى اللعب

...
غزة - يحيى اليعقوبي:

عبر (ميكرفون) سماعة خارجية توصل الصوت بـ"مستوى جيد جدًّا"، ينادي الأطفال قبل بدء اللعب: "يا ريت أبوك أو إمك يكون معك، عشان تشعر بالأمان، ماما تشجعك هي وبابا"؛ بعد أن جهز نفسه وارتدى ثياب "الدمى" المحبب إلى الأطفال؛ اقتربت الساعة من طرق السادسة مساءً؛ الشمس تسحب أشعتها الخافتة رويدًا رويدًا، الأطفال خرجوا إلى النوافذ بصوت واحد يرحبون به: "عمو فداء، عمو فداء!"، لتنطلق مراسم الفرح.

"يلا يا أطفال يا حلوين، كل واحد يجيب أي إشي لونه أحمر من بيته"، على الفور لبى الأطفال نداء اللعبة، واكتست النوافذ بألوان حمراء، يلوحون بها بأيديهم؛ تسلك الابتسامة طريقها إلى وجوههم، يخرجون من أجواء ملل كبلتهم نتيجة أزمة فيروس "كورونا"، وتعطلهم من المدرسة؛ وجلوسهم مدة كبيرة في المنزل.

في لعبة أخرى؛ رمى الناشط فداء اللداوي (36 عامًا) من فوق سطح البرج الذي يسكن فيه كرة اليد نحو الأعلى وعيون الأطفال تلاحقها، وصوتهم الموحد كذلك "هيه"، وما إن عادت الكرة إلى حضن كفه حتى صمت الأطفال، ويعيد الكرة ثانية وثالثة.

انتقل إلى لعبة جديدة طالبًا منهم شيئًا آخر: "يلا يا حلوين كل واحد يجيب قنينة (زجاجة) فاضية ويعبيها عشر حبات فول أو حمص"، وسرعان ما لبى الأطفال هذه اللعبة، وبدأ صوت الخرخشة يعلو من النوافذ على وقع لعبة "أديها ثلاثة"، ليصل الصوت إلى الحارات المحيطة، يتنافس الأطفال، من الأسرع في تنفيذ أوامر اللعبة، والأجمل تزيينها للنوافذ، حتى تعلقوا بها.

وكان مسك الختام السفر إلى رحاب أنشودة "جفرا"، يردد الأطفال كلمات الأنشودة: "جفرا وهيه يا الربع وطير الحب الشادي، يغني للسما الزرقا فلسطين بلادي يقول القدس الحرة تحرم ع الأعادي".

هكذا يكون المشهد يومي الإثنين والخميس من كل أسبوع في أبراج بمخيم النصيرات وسط قطاع غزة، بعدما أطلق فداء اللداوي الناشط بمجال الأطفال منذ 18 عامًا مبادرة "شبابيك الفرح"، التي تضم أنشطة مختلفة للأطفال، ورسائل توعوية، يسودها المرح والسرور.

ولادة الفكرة

"إجتني فكرة إني أشتغل مع الأطفال أنشطة، بعد أخذ إجراءات الأمان، وسميناها شبابيك الفرح، لقينا الأطفال متعطشين لهيك أنشطة" من هنا راودت اللداوي الفكرة كما يستهل حديثه إلى صحيفة "فلسطين"؛ لأنه رأى أمامه الأطفال يجلسون في بيوتهم، يعلق: "وهذا سبب قلقًا وعنفًا وخوفًا لهم (...) أردت تخفيف ذلك، بتنفيذ أنشطة تفريغية بالصوت".

لا يخفي ما كان يمر به بداية الأزمة بصوته الذي لم تأفل عنه الابتسامة: "منذ اليوم الأول كنت أشعر بالكبت، لأني تعودت إقامة فعاليات وأنشطة للأطفال باستمرار، ولدي عمل شبه يومي في ذلك (...) عددت الأمر صدمة".

ومن هنا جاءت الفكرة: "حبيت أخرج بشيء إيجابي للأطفال، وما يضل الوضع مسيطر علي".

يضيف: "الأطفال متفاعلون معي، حتى الأهالي يتصلون بي يوصونني باستمرار المبادرة لأنها أثرت في نفسية أطفالهم".

الشيء الجميل كذلك أن الأطفال الذين كانوا قبل المبادرة يجلسون على النوافذ، بلا صوت، مكتئبين؛ الآن يرتدون ثيابًا جميلة، كل واحد منهم تخرجه أمه "على سنقة عشرة" وكأنه ذاهب إلى حفلة، يفرغون ذلك الكبت ويلقونه في مستنقع الملل، وهم يعيشون أجواء جميلة في واحة اللعب.

ينشط اللداوي بمحيط ستة أبراج "الصالحي"؛ يسكن في أحدها، لكن صدى صوته عبر السماعات المكبرة للصوت يصل إلى البيوت المجاورة: "وجدت تفاعلًا كبيرًا من الأطفال، والأهالي سعداء جدًّا، نفذت المبادرة أسبوعًا كاملًا متواصلًا، لتفريغ الكبت لدى الأطفال عبر "الشبابيك" (النوافذ)، ثم خصصت يومين كل أسبوع لها (الإثنين والخميس)"، وهكذا ألزم الناشط نفسه، أو بالأحرى "ملزم" لأن الأطفال تعلقوا به وبألعابه، والساعة السادسة أصبحت "مقدسة لديهم"، لو تأخر دقيقة أخرجوه من بيته "عمو فداء، عمو فداء اطلع"، لكنه لا يتأخر.

استعدادات وفرح

قبل السادسة مساء يرتدي اللداوي لبس الدمى، وأزياء ملونة، لشخصيات كرتونية يعرفها الأطفال مثل: "العم مرزوق، أو تويتي، أو أم عليش وعليش، أو سبونج بوب"، كل يوم يطل عليهم من نافذة غرفته، أو من على سطح بيته بشخصية جديدة، وعمل استعراضي جماعي، يردد الشعارات وهم يعيدون ترديدها بصوت واحد.

"كنت أقوم بالفقرات من نافذة البيت، لكن بعدما زاد الإقبال من الأهالي والأطفال، وذاع صيتها على مستوى الأبراج الأخرى، أصبحت أنفذ المبادرة على سطح البرج الذي أسكن به"؛ تسبق صوته ضحكة عفوية: "صرت أشوف الأطفال من جميع الاتجاهات واكتشفت أنه في أطفال كاينين يغنوا معي من حارات ومنازل تانية وأنا مش شايفهم".

التفاعل مع المبادرة وصل إلى كتابة أطفال "شبابيك الفرح" على نوافذ منازلهم، العائلات تتنافس بطريقة جميلة في تزيين النوافذ، بعدما أطلق الناشط اللداوي مسابقة لأجمل "نافذة".

"النشاط مهم للجانب النفسي، يسهم في تغيير الأجواء والروتين، خاصة أننا ندخل فرحة على قلوبهم حرموا منها، وهذه دعوة للأهالي لتحمل أطفالهم والصبر عليهم، وتقدير أوضاعهم، وأتمنى أن تعمم المسابقة على مستوى قطاع غزة" هذا ما يوصي به الناشط.

الطفل عزات عويضة (12 عامًا) لا ينتظر حلول السادسة مساءً، وهو من أشد المتفاعلين مع "شبابيك الفرح"، لا يخفي ذلك لنا بلهجة عامية: "لما تصير الساعة خمسة العصر بطلع أنا وإخوتي بستنى عمو فداء، ولما ما يكون يوم مبادرة بنضل زهقانين (...) أكتر شيء بحبه لما نرحب برجال الشرطة ونضوي كشافات الجوالات".

جبر ثابت أحد الجيران يعلق على الفعالية: "لدي ولد وبنت، من العصر ينتظران الفعاليات، يحبان رؤية الشخصيات التي يرتديها فداء، فمرة يظهر بلبس الحكواتي لإعطاء إرشادات، ونصائح عن فيروس كورونا، وشخصيات مندلينا، وتونزي، وهذا يكسر الروتين، فضلًا عن المنافسات بين الأبراج من يردد الهتاف بصوت أعلى، وكلها أجواء فرح كسرت روتين الملل، خاصة أن الأطفال معتادون الخروج واللعب والآن هم في حجر".