فلسطين أون لاين

من مسافة "صفر" ينتزع "مخالب كورونا" من أجساد المصابين

الطبيب محمد قشطة.. وحيد أهله لم يعفِ نفسه من "التجنيد"

...
غزة - يحيى اليعقوبي

في لحظةٍ كان الصباح الثالثُ اعتياديًّا؛ يتحدث طبيب الباطنة محمد قشطة (31 عامًا) مع "حكيمين" عن وضع عائلة نهشتها "مخالب فيروس كورونا": أم وابنتها وصهرها، وأحفادها وصلوا أمس بلا أعراض؛ قبل أن يقترب صوت الإسعاف أمام بوابة مستشفى غزة "الأوروبي"، هذا الصوت أصبح كنغمة "الهاتف" لدى الأطباء، وعلامة على قدوم حالة جديدة، على الفور ذهب الطبيب والحكيمان، لاستقبال الحالة، فإذا هو رجل خمسيني يلتقط أنفاسه بصعوبة.

"إنها حالة حرجة!" يلتفت الطبيب للحكيمين، فلم يتوقع ذلك، بالعادة يستقبل الحالات بالمزاح، وتبادل "الضحكات"، إلا أن هذا الرجل كان "متعبًا جدًّا"، ضج المكان بالحركة، وأصبحت الطواقم كـ"خلية نحل"، بدأ قشطة ومرافقاه اللذان يعملان معه منذ خمس سنوات إسعافه، لكن الفرق بين الماضي والحاضر هو "بدلة الوقاية" التي تحد من تحركهم، وكأنهم يركضون في حوض ماء ممتلئ، أو كـ"رجل فضاء".

الطبيب قشطة يوزع التوجيهات على طاقمه: "حسام (حكيم)؛ حضر مكانًا للمريض مجهزًا بالأوكسجين"، ينادي على آخر: "ماهر (حكيم)؛ تواصل مع التعقيم ومع المشرفين"، في أثناء ذلك يطلب من المسعفين إنزال الحالة، المريض يتنفس بصعوبة!، الطبيب في عجلة: "أبلغوا الإدارة والعناية المركزة فورًا".

الحكيم يأخذ "العلامات الحيوية من المريض"؛ عامل "التعقيم" يطارد خطواتهم، والطبيب يسحب "عينة التحاليل"، صوت "ماهر" من الخلف: "شباب لا تنسوا أنفسكم، حافظوا على المسافة بينكم وبين المريض".

يتدارك الطبيب قشطة المسافة لحظة وينسى لحظة، فالمهم هنا إسعاف الحالة، يدفعون المريض على السرير الطبي، وحالته تزداد سوءًا، طبيب العناية وصل، وقبل أن يدخل إلى غرفة العناية المكثفة، نظر المريض إلى الطبيب والحكيمين، وخرجت منه الكلمات بصعوبة: "يعطيكم العافية، أنا مسامحكم ما قصرتم".

أكمل الطبيب قشطة عمله، لكن ظلت تباغته أسئلة كل لحظة عن حال المريض، حتى انتهى "الشفت" (مدة الإشراف) وعاد لمكان إقامته بالمشفى، تصفح هاتفه، فإذا اسم المريض الذي استقبله وقد أعلنت وفاته يظهر على الشاشة، لينزل الخبر كـ"الصاعقة على قلبه"، بقي أفراد الطاقم يجافيهم النوم، فـ"نظرات الرجل الخمسيني وهو يشكرهم ويدعو لهم ويسامحهم لم تفارقهم"؛ ابتعد كل واحد منهم عن الآخر، ليبكي بمفرده، في تلك الليلة لم يزر النوم عينيه، يتأمل ملامح الرجل الأخيرة، وكلماته التي قالها له، فكانت أصعب لحظة منذ انتدابه للعمل بمستشفى "غزة" الأوروبي.

انتداب .. ومفاوضات عائلية

الطبيب قشطة من سكان مدينة رفح، الابن الذكر الوحيد لأهله مع ثلاث شقيقات، وكونه وحيدًا لم يمنعه من الانضمام "للجيش الأبيض"، إلا أن اللحظات الأولى التي أخبر فيها عائلته بانتدابه كانت مفاجئة، "عندما أخبرت والدتي بذلك كانت كمن أنزل الله السكينة على قلبها، تقبلت الأمر وأعطتني النصائح وقبلتني، وكأنها تودع ابنها لعملية استشهادية"، لكن الفرق أن العدو هنا غير معروف، كما يروي لصحيفة "فلسطين" من قلب الحوار العائلي.

ما زالت المفاوضات دائرة داخل أروقة العائلة: "الوالد كعادته كان يدعمني بأي قرار أتخذه، يقدم النصح لكنه لا يلغي قرارًا اتخذته، لكن شقيقاتي باشرن البكاء ومعاتبتي: (إنت رايح على الموت برجليك وأنت وحيد أهلك، والوحيد معفي من التجنيد)".

زوجته كذلك استمرت بالبكاء، لعله تقنعه بالعدول، في حين كانت طفلته الرضيعة (١٠ شهور) تنام بحضنه بأمان ولا تدري أن والدها سيغادر ولن يعود إلا بعد شهر من هذا الوقت؛ وهي التي لا يفارقها لحظة واحدة.

ضحى قشطة بكل شيء؛ ترك، أهله، وطفلته، وزوجته، ربما كان يستطيع تقديم عذر لكونه الوحيد لأهله والحصول على إعفاء من "المهمة"؛ إلا أنه أصر أن يكون في "قلب المعركة"، ووضع خبرته الطبية لخدمة أبناء شعبه، مدركًا خطورة المرحلة، والحاجة الماسة للطواقم الطبية، خاصة متخصصي "الباطنة".

كيف تتعاملون مع المرضى؟، "بحرص وحذر؛ على أنفسنا وأنفسهم" -يرد- "نخشى أن ينتقل هذا المرض إلينا، ليس خوفًا منه، فأغلب الحالات طفيفة، لكن الخوف الأعظم هو أن تصاب فتعفى من العمل!، وهنا سيخسر الطاقم الطبي فردًا منهم كان يعالج أمه وأباه، وأخاه، وابنه".

أما الحذر على النفس من المرض فهو "عندما يراك بالبدلة (غطاء الوقاية) ومحافظًا على المسافة، والتعقيم، يشعر بنوع من القلق (...) واجبنا أن نشرح لهم وأن نخفف توترهم، فمع الضجة الإعلامية أصبح مصاب "كورونا" يشعر أنه ارتكب فاجعة في نظر المجتمع، وهو لا ذنب له"؛ الأمر هنا جعل قشطة مختصًّا نفسيًّا إلى جانب دوره طبيبًا.

"كنا نعرف أن الفيروس سيطال المجتمع، لكننا كنا نأمل تأجيل ذلك إلى حين وجود لقاح، أو نصبح مستعدين أكثر" هذه الحقيقة التي كان متوقعًا حدوثها.

المشهد داخل المشفى "يبدو كئيبًا"، هذه الصورة التي يراها الطبيب أمامه: "المرضى يشعرون أنهم مقيدون بفعل إصابتهم، ونحن نرتدي بدلة تخفي أي ملامح فرح أو حزن، أو تعاطف، كلٌّ يحاول أن يشدد أزر الآخر، نطمئن المرضى".

يبتسم صوته القادم عبر الهاتف: "الشيء غير الطبيعي أن المرضى يشجعوننا، ويحاولون رفع معنوياتنا".

"مخلوق فضائي"

لا يزال يوم الجمعة لا يفارقه، صوت عقرب الساعة يقرع عند الخامسة عصرًا، استعد قشطة لارتداء بدلته الوقائية، وقلبه يخفق لتسلم أول "شفت"، وكأنه يسير نحو المجهول، دخل قسم استقبال المرضى وتسلم المهام من زميله الطبيب (محمد سلامة)، لمح علامات الإرهاق ظاهرة على زميله، هنا وصل أول إسعاف، نزلت منه عائلة كاملة (جدة، وثلاث أمهات مع أطفالهن).

الأطفال ينظرون باستغراب: "من هذا المخلوق الفضائي؟"، هنا كسر الطبيب حاجز الصمت: "كيف حالك يا حاجة؟"، كانت كلماته خالية من أي مشاعر؛ فالابتسامة تتخفى تحت "الكمامة".

يتوقف عند تلك اللحظة: "طلبت من الممرض أن يجلسهم في المكان المخصص، وإحضار كمامة لمن لا يمتلك، وبدأ أخذ العلامات الحيوية، وتفاصيل التاريخ المرضي لهم".

هنا قفز الصوت من حلق طفلة سنها تسع سنوات: "دكتور؛ كله من عمي، هو اللي عدانا، مفروض تحبسه"، وطلبت شيئًا غريبًا من الطبيب: "بشكيش من إشي؛ بدي أروح على الملاهي"، في هذه اللحظة، كسر كل التوتر والخوف من المجهول، وأصبح فقط "الحذر والحرص في التعامل يسودان الموقف".

غاب نحو ثلاث ساعات، لإكمال مهمة أوكلت إليه، وعاد وفي جعبته موقف ثالث: "طفلة صغيرة وحدها في القسم (13 عامًا) طلبت من الممرضة مناداتي، فذهبت، "أنا زهقت اقعد معي" تطلب الطفلة الجلوس، فجلست وبدأت تتحدث كيف تقضي يومها، وكم تكره المدرسة لكنها اشتاقت لها، طالت الجلسة أكثر وبدأت النساء بالغرفة يشكون لي أنها لا تأكل جيدًا، فعللت: "دكتور، اشتقت لأمي ولأكلها"، ببراءة قيمت الطعام: (اللي هان مش زاكي)".

ابتسم الطبيب، لكن الكمامة أيضًا هنا أخفت تعابيره، وأكملت الطفلة فضفضتها، حتى جاءه اتصال، يخبره المتصل أن هناك حالة مصابة وصلت وأن عليه القدوم بسرعة، فاستأذن الطفلة.

من على سريرها نادته قبل أن يخرج من القسم: "دكتور أعطيني رقم جوالك، عشان لما أروح أخلي بابا يعزمك عنا"، ثم طلبت أن يعاود زيارتها: "كل ما تيجي مر علي أحكي معك، إنت الوحيد بالغرفة اللي بتسمع مني".