هو نفس العدو وبطريقته الكلاسيكية القديمة.. يتسلل ثم يفرض وقائع وأخيرًا يتحدث عن «التفاوض». الغريب أن النظام الرسمي العربي جرب عشرات المرات وعلى مدار عقود نفس الوصفة وتورط في نفس الكمين.
كنا نظن أن الآباء من الزعماء العرب بعدما رحلوا قد تتغير الأحوال. لكن اكتشفنا وبعد الحلقة الأخيرة المريضة في مسلسل اتفاقية ابراهام أن الأبناء من ورثة الكراسي قادرون دومًا على تحطيم صورة الأب لا بل قتله عبر الاسترسال في عملية انهيار لا تنتهي، قوامها فكرة «البقاء» الذي يتطلب الارتماء بأحضان العدو الأول والأهم لهذه الأمة.
نتحدث عن جميع أنماط الانهيار سياسيًّا وأخلاقيًّا وثقافيًّا، أما الذرائع فهي أكثر من الهموم على القلوب العربية لأن «التطبيع» إن لم يكن نتاج هزيمة أو حدود ملاصقة لا يمكنه أن يكون مجرد وجهة نظر بل هو انحدار ورقص على جراح الشعب الفلسطيني، مع علمنا اليقين نحن في حوض نهر الأردن أنا «سباقون» تماما في «عار التطبيع» القائم على «وهم السلام» ودفن الخيارات البديلة.
بكل حال انشغل الساسة الأردنيون طوال الأسبوع الماضي في تقليب دفاتر الاتفاق المعلن بين أبو ظبي واليمين الإسرائيلي وانقسموا كما يحصل في العادة بين من يدعو للتعقل والواقعية ومن يقرع جرس الإنذار على أساس ينسجم مع مقولة «حجة أقبح من ذنب» حيث التطبيع الخليجي «يسرق» دورا ما للأردن وللسلطة وإن كان الكيان الإسرائيلي يخدع الجميع بكل حال.
طلب مني غاضبون كثر أن أقول رأيي بالخطوة الإماراتية التي لا أستطيع لأسباب مفهومة التعاطي معها بعيدًا عن حضنها السعودي والبيئة الشابة المتهورة التي تحكم منظومة غالبية دول الخليج من عدة سنوات حيث تهور وارتجال واستعراض سقيم بالمال وما يمكن أن يفعله وخطوات انفتاح منحرفة ومتسرعة في كل المجالات باستثناء الحريات.
صدقًا في الرياض وأبو ظبي والمنامة وغيرها من مدن الملح ثمة انفتاح بكل مظاهر الحياة باستثناء الانفتاح في الاصلاح السياسي أو الحريات العامة، طبعا ثمة منظرون وأتباع ومستفيدون جميعهم يخدم «قيادة ما ملهمة».
عموما ما حصل باختصار وتقدير شخصي ما يلي: حظي نتنياهو بكنيس وعلم الكيان على برج خليفة وتطبيع شامل «وتعاون أمني» وصورته ظهرت على الصفحة الأولى لصحيفة «الاتحاد وفي طريقها للظهور على الصفحة الأولى لصحيفة «الخليج» بينما حصلت الإمارات لـ«الامة» على «وعد غامض» بتأجيل مشروع كان اصلا «يترنح» أو صرف النظر عنه مؤقتا واسمه «الضم».
وقاحة الشريك الإسرائيلي دفعته للإعلان عن «السلام مقابل السلام» وتأكيد أن "إسرائيل" الجديدة التي اشتغلت خطوطها الهاتفية مع الإمارات ستزيد حصتها من الأراضي الفلسطينية؛ بمعنى أن قصة التراجع عن الضم ليست أقل من «كذبة» أو فرية لم يكن من يريد التطبيع أصلًا محتاجًا لها، لأن أسباب التطبيع أساسا لا علاقة لها لا بالسلام ولا بفلسطين.
أدهى من هذه الصفقة العادلة لن تشاهد عينك، وتلك «قسمة» سيحاول السحيجة من المطبعين العرب في الخليج الهادر وبعض الفلسطينيين المحتفلين بالإنجاز نكاية بعباس وليس حبا بتحرير فلسطين إقناعنا بأنها في مصلحة السلام والشعب.
«سلام إيه اللي انت جاي بتئول عليه»؟.. تلك أغنية صالحة للتيار الفتحاوي إياه الذي ابتلع لسانه فجأة ويرتمي بأحضان أبو ظبي من عدة أعوام ولم يقُل لنا شيئًا عن تقديره الوطني أو السياسي للمرحلة.
لو سألونا عن تجربتنا كأردنيين في التطبيع مع كل أعذارنا لقلنا لهم الحقيقة. لو سألوا عجوزنا عبد السلام المجالي لقال لهم الحقيقة المرة.
المال الإسرائيلي اليهودي سيسيطر قريبا على سوق العقار المترنح في دبي وأبو ظبي وذريعة البقاء والتمكين ستدفع باتجاه تسارع سياسي تنسيقي غير مسبوق سرعان ما سينتهي بشراكات استراتيجية في مجالات الأمن والطاقة وممرات المياه الدولية ثم «ابتلاع» منظومة أمنية خبيثة وخبيرة لأخرى مهترئة وتحبو، تشبه شقيقاتها في النظام الرسمي العربي حيث كفاءة في القمع فقط وتسهيلات لأي عدو وعقدة نقص.
رغم الضرر الكبير الذي يلحق بشعبنا الفلسطيني نأمل من الله العزيز الجبار «كل الخير» للإمارات ونحذرها من الكمائن والمطبات المقبلة من عدو تزداد خطورته عندما يدمع كالتماسيح ويبتسم كالضبع.
أما قضية فلسطين فلا تتأثر بـ«كل العابرين» وشعبها صامد وحي وسط كل التدنيس السياسي وأهم ما في الاتفاق المعلن مع الإخوة في الإمارات وبصرف النظر عن الدواعي والمبررات أنه ينقل تواصلا كان سريا إلى المستوى العلني وهو ما ستفعله دولتان خليجيتان قريبا جدا بعدما وعدنا «الشقيق الكويتي» بأنه سيكون «آخر الملتحقين» بقطار التطبيع.
التحذير واجب التكرار.. الإسرائيلي يتسلل ثم يتفاوض بعد التموقع أما «جماعتنا المسخمين» -أقصدنا جميعًا- فيخلعون السروال قبل التفاوض.