قائمة الموقع

"ريماس البنا".. طفلة مريضة تُعاقَب على ذنبٍ لم يرتكبه والدها

2020-08-19T10:32:00+03:00
853fa01b-8680-441f-a830-f8b3e06a3d4e.jpg
فلسطين أون لاين

في ثاني أيام المدرسة تلتف طالبات الصف الأول في حلقة دائرية يلعبن "الغميضة" مع معلمتهن، لم تعثر أم محمد البنا على طفلتها "ريماس" التي تعاني مرضًا نادرًا بعدما جالت بعينيها المسدولتين بستار القلق تلك الدائرة، تبحث عن طفلتها، إلى أن وقع نظرها عليها، وكانت تجلس وحيدة بعيدا عن الطالبات، تصفق تارة للبنات وتبكي أخرى، وهي تقيم مراسم حزن خاصة تشيع فيها فرحة محرومة من تذوقها كونها ممنوعة من بذل أي جهد حتى لا تتضاعف حالتها، فالاحتلال الإسرائيلي يمنع عنها جرعات علاجها ويعاقبها على ذنب لم يرتكبه والدها الأسير المسعف مصطفى البنا المحكوم بالسجن (40 شهرًا).

هنا؛ بكى قلب الأم.. وأطلقت العنان لدموع حزنها بالجريان وألقت بوابل اللعنات على الاحتلال، الذي حرم ابنتها الفرحة.

طفلة تحتاج إلى علاج لمرض نادر يمنعه الاحتلال  عنها، ووالدها الأسير الممرض يقبع خلف قضبانه لأنه حاول إسعاف طفل مصاب بمسيرات العودة الكبرى وكسر الحصار السلمية، من على السياج الفاصل؛ قصة أجرم الاحتلال فيها بحق قوانين حقوق الإنسان، ودفن تلك القوانين في مقبرة "اللا مبالاة" التي تعود أن يدفن فيها كل فرحة، وتنغيص حياة الناس.

قصة الطفلة بدأت بعد سنة وثمانية أشهر من ولادة ريماس، حيث لاحظت أمها تضخما وانتفاخا في بطنها، عرضتها على أطباء في غزة، ولم يكن التشخيص واضحا الذي تبين أنه نقص في إنزيم الدهون، فتم تحويلها لمستشفى "هداسا عين كارم" الإسرائيلي، وتبين من نتاج التحاليل أنها تعاني مرضا نادرا يسمى (جوشير).

"حينما أجريت لها التحاليل انتظمت في تلقي العلاج لثمانية أشهر تأخذ جرعة كل أسبوعين، إذ تبلغ تكلفة الجرعة الواحدة ثلاثة آلاف دولار (...) وضعها الصحي بدأ بالتحسن، انتفاخ بطنها بدأ يضمر للداخل، ولا كأنها مريضة، وجهها بدا مشرقًا وبدأت بشرتها بالتحسن، بعد أن كان لون شفتيها سابقًا أزرق".. تستهل أم محمد البنا حديثها مع صحيفة "فلسطين".

بسبب المرض تتقيأ ريماس دما باستمرار، تعاني تضخما في الكبد، والبطن والطحال، ونزيفا أنفيا، وتكسر كرات الدم البيضاء فهي بحاجة إلى وحدات دم بيضاء.

علاج تَغيَّرَ مساره

هنا تغير مسار كل شيء ..الخميس؛ موعد جرعة دواء مرض ابنتها النادر، تتصل الأم بالطبيب بالمستشفى الذي يتابع حالة ابنتها في غزة، مستفسرة: "هل وصلت الجرعة يا دكتور؟"، الطبيب عبر سماعة الهاتف يود لو باستطاعته طمأنة الأم وإطفاء نيران خوفها، لكن لا مجال هنا إلا للمصارحة: "الحقيقة؛ لم تأتِ الجرعة منذ أسبوعين"، تكرر الاتصال ذاته والجرعة لم تصل غزة، معها زاد وضع الطفلة سوءًا وأصبحت حياتها مهددة.

بقي سبب المنع مجهولاً؛ حتى أخبرهم محامٍ أن ضباط مخابرات الاحتلال هددوا والدها الأسير المسعف مصطفى البنا بابنته وكان التهديد صريحًا واضحًا في إحدى جلسات التحقيق التي رفض فيها الإدلاء بمعلومات ما: "بنتك بين ادينا .. راح ندفعك الثمن غالي" وزاد الضابط في تهديده: "حأنتقم منك في بنتك".

تعلق أمها: "بعد شهرين منعنا من السفر للعلاج في مستشفيات الداخل، ومن ثم منعت عنها جرعة الدواء".

صوتها هنا ممزوج بالحسرة، مستذكرة حال ابنتها في أثناء العلاج: "ولا كأنها مريضة، شكلها، ملامحها، كل شيء جميل، لكن قبل أيام أجرينا لها عملية منظار للمعدة والجهاز التنفسي وجدنا مضاعفات كبيرة، فهي تتقيأ دما، لون بشرة جسدها يتغير للأسود، وانتفاخ كبير في البطن".

تغافلها دمعة حزن عبرت حديثها: "بطنها بارز جدا، ومتحجر، منذ مدة ينزف أنفها دما، ونمدها بجرعات دم تعويضية".

"أملنا بالله كبير، ناشدنا، صرخنا، لكن دون فائدة، هناك طفلة أخرى في القطاع تعاني المرض نفسه وتتلقى العلاج وتسافر دون أي عقبات، لكن الاحتلال يعاقب ابنتي على ذنب لم يرتكبه والدها " .. "فأين الإنسانية ؟" تتساءل الأم بحرقة وهي تتمنى لو تستطيع إسكات ألم طفلتها المتواصل، وجع صوتها هنا يخبرك بذلك.

"نفسي ألعب ..!" .. ينزل كلام الطفلة ثقيلا على قلب الأم كلما تكرر، تدنو من ابنتها واضعة يديها برفق على وجهها، محاولة تبرير ذلك: "عشان بجيبكِ نزيف أنف"؛ وما إن تستدير الطفلة تفتح الدموع شقوقا في خد الأم.

"لما أصحبها معي للمشفى، أعرض لها نماذج الأطفال هناك، مثلا طفل على كرسي متحرك، أعزز نفسيتها أكثر بأنها أفضل من غيرها" .. هكذا تحاول البنا ترميم نفسية طفلتها المحطمة أمام جدران الألم.

توقفت الأم بعدما برقت عيناها، وتهيأت دموعها وغاب صوتها بين تلك الحسرة: "أتدري أنني أشتري لها ملابس تناسب طالبات الصف الرابع أو الخامس، ومقاسات أكبر من سنها، ومن ثم أقصرها، لأنني أريد ملابس تناسب محيط بطنها بأن يكون واسعا، وبه فسحة، تخيل أنني أعاني كلما أريد شراء ملابس لها".

إسعاف واعتقال

وللأب قصة مشابهة بين سطور القهر .. الثامن من إبريل/ نيسان 2018م، استُدعي المسعف مصطفى البنا (31 عاما)، إلى النقطة الطبية شرق منطقة "أبو صفية" شمال قطاع غزة، في الأثناء أطلق جنود الاحتلال النار على طفل يبلغ من العمر (16 عامًا).

 الممرض الذي يرتدي رداء طبيا وتكفل له قوانين حقوق الإنسان معالجة المصابين، تقدم تجاه الطفل المصاب قرب السياج وأمامه مهلة "ثلاث دقائق" لوقف النزيف قبل أن تصبح حياته مهددة، على عجل حمل الممرض حقيبته الطبية وذهب برفقة زميل آخر معه، يمسكان بحمالة نقل المصابين، هو في الأحرى كان يحمل أيضا تلك القوانين التي تحمي عمله.

تقدم البنا، فوجد الطفل داخل السياج (باتجاه الأراضي المحتلة سنة 1948)، وما إن باشر في علاج الطفل ومحاولة نقله، لإسعافه، جاءته قوات تابعة للاحتلال كانت موجودة بالمكان وثبتته وطلبت منه خلع سترته الطبية، وأَسرته هو والطفل، بعد فترة عاد الأخير إلى غزة، وبقي المسعف أسيرا وحكم بالسجن (40 شهرا) تبقى منها 10 أشهر.

"عرض زوجي على 30 جلسة محاكمة، أمضى 33 يوما في التحقيق في زنزانة تحت الأرض، صارت لديه مضاعفات صحية كبيرة، أتدري؟ في ثاني أيام عيد الأضحى الماضي توقف قلبه، واعتقدنا أنه استشهد، ومكث بالعيادة 14 يوما، علما أن الاحتلال زرع – بعد معاناة وضغط –جهازا له لتنظيم ضربات القلب بعد سنة من المطالبات والضغط المتواصل أضرب فيها عن الطعام لمدة أربعة  أيام " .. تختصر بذلك معاناة زوجها الأسير.

تنقل ما حدثها به زوجها من خلال محامٍ: "لما خرجت من الزنزانة، وأردت فتح عينيّ، شعرت أنهما ستتفجران، بعد فترة أمضيتها في العتمة؛ لم أرَ فيها شمسًا، ولا نورًا، في مكان "مقزز" لا توجد به نافذة، ولا أغطية، عذبت، شبحت على كرسي، وعلقت، وشبحت بالمقلوب ( الرأس للأسفل)، وضربت بالسلاسل، وتذوقت كل أنواع العذاب منهم لأني فقط رفضت التجاوب معهم".

صوتها هنا يخرج ما بها من قهر، وغضب، وإن شئت شتى أنواع الحزن: "هذه سياسة ممنهجة لحصارنا من كل الجهات، ما ذنب طفلة تحرم من العلاج؟ أليس ذلك حقها الإنساني؟ ما الشيء الذي سيحققه الاحتلال بهذا الحرمان والمنع (..) ونحن نعلم أنها ورقة ضغط يدفع أطفالنا ثمنها؟".

عام ونصف العام والاحتلال يماطل في سحب عينة "كلى" للأسير البنا الموجود في سجن "عسقلان"، حتى بات مهددًا بالفشل الكلوي،  20 حبة دواء يومية لا تكفي لإسكات وجعه، بقي 10 أشهر لخروجه من سجن دخله سليمًا خاليًا من الأمراض، فبأي حال سيخرج مصطفى البنا الذي هرم في "عز شبابه"؟!

اخبار ذات صلة