فلسطين أون لاين

الشهيد خالد الحلو.. طيفٌ لا يفارق الذاكرة

...
غزة- سجى حمدان:

صدحت المآذن ابتهاجًا بقدوم العيد، وهويدة أم الشهيد خالد الحلو تنظم ضيافة المهنئين على الطاولة، حين وقعت نظراتها على صورة ابنها المعلقة على جدار المدخل فبدت كأنما تراها أول مرة، تقدمت خطواتٌ باتجاهها وفي القلب وحيُّ سؤال: كيف لستّ سنوات أن تمرَّ على غياب خالد والذاكرة تحصي التفاصيل كأن الحدث وقع البارحة فحسب؟

تدري أنه بعد ساعاتٍ سيأتي رفاقه لزيارتهم كما في كل عيد، لتبدأ رحلة السفر بالذاكرة إلى حيث يقبع خالد، فيخيل لها أنه جالسٌ بين حكاياتهم وأحاديثهم، بعدما كان استشهاده هو بذرة إنشاء العلاقات بين عائلته وأُسرِ أصدقائه.

جذوة طموح

أبى خالد إلا أن يكون عصاميًّا، فاعتمد على نفسه طاردًا شبح البطالة قبل وصوله وهو لا يزال على مقاعد الدراسة بتخصص تكنولوجيا المعلومات، إذ كان لديه شغف بتصليح الأجهزة الإلكترونية والطابعات، فعمل في أكثر من مكان بهذا المجال.

ما كانت جديةُ خالد واجتهاده مانعًا من ممارسة الحياة التي يحب فقضى وقته بين السباحة وصيد الأسماك وتريبة العصافير التي كانت ملاذ همومه وبئر أسراره، وأسس لفتح مشروعه الخاص، وبدأ التجهيز لمركز يلبي احتياجات الطلبة بطباعة الكتب والمحاضرات، ويهتم بصيانة الطابعات والأجهزة المختلفة.

"قبل استشهاده بأسبوع طبع البطاقات الخاصة بمطبعته التي بدأ تجهيزها، والعمل على إعدادها بصورتها الكاملة" تصف أم الشهيد في حوارٍ مع صحيفة "فلسطين"، كأنما رأت حمامة كسيرة الجناح.

بينما كان يسلك خالد طرقًا شتى ويُعافر في سبيل الوصول إلى أهدافه ساعيًا إلى حياةٍ أفضل لم يغب عنه حلم المقاومة والتحريرِ، ليسلك طريقًا جديدًا في هذا المجال وتكون نقطة تحولٍ للسباحة من هواية إلى مهمةٍ وطنية.

عاد ذات مرةٍ ليلًا وهو يلبسُ البزَة العسكرية، فأخذ يصعد السلالم بهدوء حتى لا يزعج أحدًا من النيام، لتتفاجأ به عمته التي تروي هذا المشهد كأنها تعيشه ثانية.

علقمُ الانتظار

العاشر من رمضان، بدأ عدوان 2014م بكشف الستار عن قباحة وجهه، ليعد الفلسطينيون في غزة أنفسهم لأحداث لم يسبق لها مثيلٌ على قطاع غزة المحاصر، خرج خالد مع بدء التصعيد بعدما عانق أفراد عائلته بعينيه عناق الوداع: "كان يُريدُ أن يقول شيئًا لكنه سرعان ما تراجع وهم بالخروج" تشرح أخته أسماء تفاصيل المشهد الأخير، وقد تنبأت أن خالد أنذرهم بالرحيل.

لم يعد خالد، وبينما تجلس العائلة على مائدة الإفطار يأتي خبرٌ عاجلٌ يحتل الربع الأخير من الشاشة: "تنفيذ عملية إنزال بموقع "زكيم" العسكري".

كمن أدرك شيئًا فجأةً، توالت صور بدلته البحرية إلى عقول عائلته فور رؤيتهم الخبر، ليتبادر حينها إلى عقولهم أنه استخدمها للتدريبات التابعة لكتائب الشهيد عز الدين القسام، وليس ممارسةً لهوايته كما ظنّوا، كان السكون سيد الموقف حين شلَّ التفكيرُ الألسنةَ عن الكلام.

"قلبي وقع يا خالتي"، تصفُ أمه شدة المشهد رغم ضبابية التفاصيل وعدم إعلان الأسماء؛ وكأنها جزمت أن خالد من نفذ تلك العملية واستشهد هناك ليسقط قلبها لحظةَ ارتقائه شهيدًا على أرض المعركة.

ولأغراض السرية وبحسب ما أوصى الشهيد ظلت أسماء الشهداء طيَّ الكتمان خلال العدوان، بقي الحديث عن العملية غامضًا والهُوياتُ غير معروفة، لكن قلوب عائلة خالد ظلت تتجاذب بين "استشهد، ولا يزال على قيد الحياة".

45 يومًا من القصف في كل ناحية من الأرض، ودخانُ الشك ينحصر بين حجرات القلوب يخنقها كيف يشاء، حتى ثلاثة أيام عيد قضوها خلال العدوان ما استطاعت أن تمنح العقول الراحة وتكُفَّها عن التفكير.

"كثر الحديث بين الناس، ولم نرد تصديق أي خبر أو إشاعة مفادهما أن خالد استشهد" تقول أختهُ خديجة وهي ما زالت حتى هذه اللحظة لا تستوعب كيف قضت تلك المدة من الزمن لا تدري فيها على أي ضفافِ القدر قد رسا أخوها.

عتبةُ الألم

طُويت الأيام على طولها ومرارة انتظارها، وكانت لحظة النزول إلى الأرض بعد (45) يومًا من العدوان، عندما أتى رفاق خالد البيت، وأخبروا إخوته أنه كان فعلًا من الشبان الأربعة الذين عبروا البحر واقتحموا القاعدة البحرية (زكيم)، ليُسقطوا عددًا من القتلى في صفوف الاحتلال، ثم ارتقى وصحبه شهداء.

"صلي وادعيله" كانت المفصل بين مرارة الانتظار ووجع الخبر، حتى إن كان خيار الفقد مطروحًا، فما ساهم الكلام المتناقل سابقًا أو الإشاعات في رفع عتبة الألم لدى أمه، أو تهيئتها والتخفيف من شدة الخبر حين سماعها إياه: "صُدمتُ كما لو أني أسمع لأول مرة، وبكيت من وقع الصاعقة".

تُنصبُ خيمة العزاء، ورغم نفير الناس من كل نواحي الأرض المدمرة إلى أهل الشهيد لا يكون هذا عزاءً لقلب والدته التي بيتت الأمل في اللقاء القريب، فبعد مرور ستِّ سنوات على الحدث لا تزالُ أمه تحتفظ بالبطاقات التي طبعها خالد تجهيزًا لمشروعه، فأبى الاحتلال إلا أن يفرق بينه وبين حلمه.

لا يزال طيف خالد يحوم بين عائلته وأصدقائه فيرونه من وقتٍ إلى آخر بين تفاصيل حياتهم، حاضرًا في منتصف دعائهم وصلاتهم، فأدّى أحد أصدقائه مناسك العمرة إكرامًا لروحه.

ولأنهم ودعوا الشهيد دون جثمانه دومًا ما يباغتها شعورٌ بأنه غائبٌ ليس إلا، "وأنه سيدخل علينا من الباب يومًا ما وهو يحمل الكنافة ويضحك كما اعتاد أن يفعل" تتحدثُ خديجة وهي تأبى أن تقطع خيط الأمل.

وكلما عاد المشهد إلى الذاكرة مرت أطياف خالد وأصدقائه في الخاطر أبطالًا؛ أنْ كيف لأولئك الشبان في أوائل العشرين من العمر أن يجتازوا البحر وهذه المسافات بأجسادهم ومعداتهم الثقيلة، فيصلوا إلى ساحل عسقلان شمال قطاع غزة، ثم ينفذوا المهمة بنجاح؟

بل إنهم كادوا يعودون سالمين، كما أظهرت مقاطع فيديو بعد استشهادهم، لكن أصابتهم نيران الاحتلال قبيل دخول البحر حيث طريق عودتهم.