لم يكن ما جرى يوم الخميس بين دولة الإمارات العربية المتحدة والكيان الصهيوني مفاجئاً لأحدٍ، أو صادماً لنا أو لغيرنا من المراقبين والمتابعين، فهذه الاتفاقية كانت متوقعة إن لم تكن قائمةً أصلاً وموقعةً مسبقاً، ولكن أوان الإعلان عنها قد حان، وأصبح كشفها والاعتراف بها في هذه المرحلة ضرورة، فهي مسيسة لخدمة ترامب في معركته الانتخابية الرئاسية في الخريف القادم، وهي لخدمة نتنياهو وتحسين أوراقه الائتلافية والانتخابية في حال قرر خوض غمار انتخاباتٍ برلمانية مبكرة، وقد أحسن الطرفان استخدام هذه الورقة التي يعرفان قدرها، في الساعات الأخيرة والحاسمة في مسيرتهما السياسية، إذ عندهما ما يربحانه، ولكن بالضرورة ليس عندهما ما يخسرانه، سواء كان وعداً ونيةً، أو تعهداً والتزاماً.
هذه الاتفاقية ليست جديدة، بل هي قديمة في حقيقتها وإن كانت جديدة في الإعلان عنها، فقد سبقها غزلٌ كثيرٌ، ولقاءاتٌ عرضية ومنظمة، وابتساماتٌ ودّية ومصافحاتٌ رسميةٌ، وحواراتٌ معلنةٌ وسريةٌ أكثر، وتخللها زياراتٌ واستقبالاتٌ وتبادلٌ للمعلومات والبيانات، وسبقها تطبيعٌ للملاحة الجوية، وتسييرُ طائراتٍ مدنية بين الطرفين، وتنظيم رحلاتٍ إنسانية مظهرها العام بريء، وحقيقتها تطبيعٌ مقيتٌ، وشارك في مناسباتٍ عديدةٍ وزراء إسرائيليون، تم استقبالهم رسمياً في مطار "أبو ظبي"، وعزفت فرقها الموسيقية النشيد "الوطني الإسرائيلي"، وجابت ميري رغيف التي كانت وزيرة الرياضة في شوارع المدينة، وزارت مساجدها، والتقطت صوراً تذكارية لها في صحن مسجد الشيخ زايد ومحرابه.
لا نقلّل أبداً من خطورة هذه الاتفاقية، فهي انقلابٌ على القضية الفلسطينية، وإضرارٌ بالغٌ بمصالح الشعب الفلسطيني، وتخلٍ صريح عنه وعن نضاله الوطني، وغدرٌ به مشينٌ، وطعنٌ له في الظهر جبانٌ، وتحالفٌ ضده مدانٌ، ووعدٌ بنصرته مكذوب، وتعهدٌ بحمايته غير مضمون، في الوقت الذي لا نقلل فيه من خطورة الاتفاقيات العربية السابقة، كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو، فهي كلها اتفاقياتٌ خيانيةٌ، حللت الحرام واستطعمت المنكر، وفرطت في الثوابت وتخلت عن الأصول، فلا يتمسك بها إلا كل مارقٍ من الأمة ومرتدٍ عنها، ولا ينكرها إلا كل مخلصٍ للأمة ومدافعٍ عن قيمها ومتمسكٍ بثوابتها.
عجيب أمرهم إذ يدافعون عن جريمتهم ويبررون فعلتهم ويشجعون غيرهم على الإتيان بمثلها، وهي التي وصفها مؤسس بلادهم الشيخ زايد بن نهيان بأنها حرامٌ وخيانةٌ، ورذيلةٌ مشينةٌ، وأن الاعتراف بـ(إسرائيل) جريمةٌ وردةٌ، وأن الثقة بها وهمٌ وخيالٌ وخبلٌ وسفهٌ، فهي محتلٌ غاصبٌ وقاتلٌ جبانٌ، وعدوٌ يقف للأمة كلها بالمرصاد، يتآمر عليها ويريد بها شراً، فكيف بأولاده من بعده يأتون الحرام الذي نهى عنه، ويقترفون المنكر الذي كان يتجنبه، ويصرون عليه أنه فضيلة وعملٌ صالحٌ، وأنه بوابة خير ومفتاح سلام، وأن الاتفاق معها سيصنع السلام، وسيعيد الحقوق، وسيرجع الأهل إلى الوطن، وسيبني الدولة ويحقق العدالة.
أصم هؤلاء وغيرهم آذانهم عن تصريحات رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، إثر التوقيع على اتفاقية "أبراهام" للسلام بين "أبو ظبي" وكيانه، التي كذب بها كل حالمٍ، وصفع بها كل مخدوعٍ وواهمٍ، إذ قال فيها أنه لم يتخلَ عن مخططاته في ضم "يهودا والسامرة"، واستعادتها للسيادة الإسرائيلية، وأنه ماضٍ في خطته حتى النهاية، ولكنه سيلتزم التوقيت المناسب للإدارة الأمريكية، وحينما تكون الظروف مناسبة فإنه لن يتأخر عن تحقيق حلم الشعب اليهودي في استعادة أرض أنبيائه ومدن وممالك ملوكه، وكأنه يقول بجرأةٍ أو وقاحةٍ، وببلاغةٍ أو صفاقةٍ، أن من يدعي أن هذه الاتفاقية ستوقف مشروعه الاستراتيجي فهو واهمٌ وجاهلٌ.
هذه الاتفاقية كما غيرها لا تخدم الشعب الفلسطيني ولا تصب في صالحه، ولا تحقق أهدافه ولا تجعلها قريبة أو ممكنة، بل هي تخدم العدو الصهيوني وتساهم في تحقيق أحلامه وفرض أوهامه وتكريس أطماعه، إذ يريد نتنياهو أن يستفرد بالشعب الفلسطيني، وأن يجعله وحيداً في مواجهته، وأن يقصي باتفاقياتٍ زائفة الدول العربية عنه، ليحرمه من الحاضنة العربية والعمق الشعبي الكبير الذي طالما كان درءاً للشعب الفلسطيني وسياجاً له، يحميه من الخطوب، ويقف إلى جانبه في الحروب والمحن، ليتمكن بعد ذلك مع الإدارة الأمريكية ورئيسها دونالد ترامب من فرض صفقة القرن وتنفيذها، ودفع الدول العربية جميعها لتكون طرفاً فيها وجزءاً أساسياً منها، تدافع عنها وتساهم في تطبيقها، وتكون مسؤولةً عن تنفيذها وحمايتها.
ولعل العدو يدرك تماماً أكثر من غيره، أنه لا سلام إلا إذا أقر الفلسطينيون به ورضوا عنه، ولا استقرار أو هدوء إلا إذا استعاد الفلسطينيون حقوقهم، وبنوا دولتهم، ورفعوا فيها فوق رباها وعلى قباب ومآذن مساجدها أعلام بلدهم ورايات وطنهم، وهو ما لا يكون إلا باستمرار المقاومة، وبالتمسك بالحق، وبالإصرار على النضال، الذي به تتحقق الأهداف المنشودة والخواتيم المأمولة.
رغم الغصة والمرارة، والحزن والألم، والإحساس بالغدر والخيانة، فإن الشعب الفلسطيني الذي يرفض هذه الاتفاقية وغيرها، ويستنكرها ويدعو لنقضها وعدم الالتزام بها، فإنه يصر على مواصلة نضاله، والتمسك بحقوقه، والدفاع عن مقدساته، ويؤكد للعدو والصديق معاً، ويحذر الوسيط والسمسار سويةً، أن هذا الشعب سيبقى حاملاً لواء المقاومة حتى يحرر وطنه ويستعيد أرضه، ويطهر مقدساته، ويعود إليه أهله وأبناؤه، وأنه لن يضعف إن تخلى عنه البعض، ولن يلقي البندقية إن خان فريق أو فرط قطاعٌ آخر، فأمتنا لن تضل أبداً، ولن تفرط في قيمها طويلاً، وهي إن كبت حيناً أو ضعفت قوتها وخبا أوارها، فإنها ستنهض من جديد، وسيتقد جمرها ناراً ولهباً، وإن غداً لناظره قريب.