لن تسرقوا دمنا ولا حلم السنابل
أطفالنا كبروا هدير هتافهم صوت الزلازل
الله أكبر في ضمير الشعب تسري فيقاتل
كلمات عبر بها الشاعر خالد أبو العمرين عن ثورة الحجارة عام 1987م حينما ذهل العالم كيف لشعب أعزل أن ينتفض بكل هذا العنفوان على جيش مدجج بالسلاح مستخدمًا الحجر، فكان إعجازًا لكل مبتكري وسائل القتال ضد العدو، ذلك السلاح الذي ابتكره شعب غزة، وكانت الانتفاضة الأولى التي تغنى بها العالم الحر، ولما لم يكن بحسبان العدو أن يصنع شباب غزة هذه المعجزة الثورية فقد أربكت كل حساباته ولم تعد تسعفه دباباته وطائراته وألوية جيشه أمام هذا الإعجاز الفلسطيني.
وما أشبه تلك الأيام بما تمر به غزة اليوم بعد ما يقارب الثلاثين عامًا!
وما أذهل المفارقة، فكما حول شباب غزة الحجر إلى قيمة ثورية تغنى بها الشعراء، كذلك استخدم بالون العيد الذي عبر دائمًا عن فرحة الأطفال بقدوم العيد، وكان دائمًا وسيلة التعبير عن الفرح ليحوله شباب غزة إلى وسيلة فعالة لقتال العدو وإيلامه.
فلطالما ارتبطت البالونات بأجواء العيد والفرح، وطالما كانت رمزًا للبهجة والسرور، ومتعة الأطفال وراحة نفس للكبار، وكان البالون دائمًا مصدرًا لجلب السعادة ورمزًا للأعياد والمناسبات السعيدة.
لا تختلف رمزية البالون في غزة المدينة المحاصرة منذ أربعة عشر عامًا عن رمزيته في أي مدينة أخرى تحظى بالحياة التي تفتقدها غزة، بعد أن ضرب العدو حصاره ليحرمها الفرح وليزرع فيها البؤس والشقاء سعيًا لكسر إرادتها وسلب عزيمتها وطعنها في مكمن عزتها وكرامتها.
ولكنها غزة -أيها السادة- المدينة التي تستحق الحياة كما فلسطين كلها، كما قال محمود درويش في ذكرى رحيله التي تصادف هذه الأيام، فعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة، ولما آمنت غزة ببعثها المتجدد، رسمت خطوط الحياة الزاهية من بين أسلاك الحصار، فطيرت بالوناتها في مشهد كرنفالي يحمل همومها وأوجاعها، واتحدت مع عبير البحر القادم من الغرب نحو الشرق السليب ليجعل من أوجاع غزة وهمومها وحصارها نارًا تحرق الحصار وتحطم غرور المحاصرين وتكسر إرادتهم ببالوناتها، وتحيل حياتهم إلى جحيم لا يتوقف، وتذيق العدو بعضًا مما يتجرعه أهل غزة منذ بدأ العدو نفث سمومه فيها، فأحالت البالونات خضرته إلى رماد وهواءه إلى غبار وهدوءه إلى خوف وفزع، ولم تفلح كل وسائل فتكه بالتصدي لبالونات عيد غزة، أما في غزة فيبقى للبالونات دورها المألوف في جلب السعادة وإشاعة أجواء الفرح، والبشرى بقدوم العيد.
وهكذا أصبح لبالون العيد قيمة ثورية عظمى كما كان للحجر قبل ثلاثين عامًا مضت، فأربك حسابات العدو، وأجبره مرة تلو المرة على الخضوع صاغرًا لشروط غزة، رغم عنجهية الكلمات وغطرسة المواقف التي يصدرها العدو، ومن الحجر إلى البالون ومن انتفاضة الحجارة إلى مسيرات العودة وكسر الحصار، تستمر قصة الحلم والأمل الفلسطيني للانعتاق من ليل الظلام الصهيوني، ففجرنا لاح، وستجترح غزة معجزات البقاء متى نزف جرحها لتجد ما تداوي به آلامها، حتى لو خذلها كل العالم.
ولذلك ستظل غزة أرضًا تستحق أن نحيا عليها، ومن يأبى العيش في أرض العزة والكرامة؟! إنها غزة التي تصنع معجزات التحدي ليزداد شموخها وعظمتها، متى رسمت لوحة جديدة من لوحات النضال بوسائلها التي أعجزت كل أدعياء العمل الثوري والمقاومة.
وستبقى لوحات غزة المقاومة مزارًا دائمًا لكل الشعوب الحرة والأحرار والثوار يتأملون تفاصيلها ويهيمون عشقًا فيها، ويمنون النفس بأن يكونوا تفصيلًا صغيرًا من مكوناتها.