لا يشعرُ الغريبُ في بيروت أنه غريبُ الدار، بل كان يُحسُّ أن بيروت تصلح أن تختصرَ كل بلدان العالم في مساحتها الجغرافية الصغيرة، لأنها أكبرُ من كل القارات! لبنان لم يكن بلدًا، بل أريجُ عطرٍ مصنوعٍ من خلاصة الثقافة والفنون، ومن الحرية والانفتاح، من السلام والعدل، ظل لبنان شامخًا عزيزًا يستعصي على الكسر.
طلب مني أحدُهم أن أكتبَ عن ذكرياتي في بيروت، كتبتُ الكلمات التالية:
كنتُ في ريعان الشباب عندما دخلتُ بيروتَ للمرة الأولى في سبعينات القرن الماضي، لم تكن بيروت سوى باريس العروبة، لم يلفت نظري نظافتُها، ولا تعدُّدُ الأعراقِ والألوان في شوارعها، ولا جمالُ معروضات محلاتها، ولا لذاذةُ طعامِ مطاعمها؛ بقدر ما لفت نظري بسطاتُ الكُتب الرخيصة في كل مفرق طريق، كانت الكُتبُ معظَمُها مترجما من اللغات الأجنبية، أكثرها ممنوعُ تداوُله في معظم البلدان، تُباعُ بأقلَّ من سعر التكلفة!
كانت بيروت عابقة بكل أنواعِ الفنون، الفنانون التشكيليون يعرضون إبداعاتهم، يوزعون بطاقات الدعوة المجانية إلى معارضهم، كانت دورُ السينما تعرض أحدث الأفلام المعروضة في دور العرض الكبرى في باريس ولندن!
كانت المساجدُ والكنائسُ تتخاصر في وُدٍّ ومحبة، الأجراسُ تختلط مع أصوات المؤذنين، كان لابسو الجُبَّة والقفطان، حاملو المسابح يبتسمون للابسي القلنسوات الدينية.
كان بائعو شراب الجِلاّب يلبسون الأردية المزخرفة والطرابيش المزينة، يسيرون في الطرقات، يمزجون شرابهم اللذيذ، بالصنوبر الطري، يقدمونه للشاربين وهم يبسمون من القلب.
لا يشعرُ الغريبُ في بيروت أنه غريبُ الدار، بل كان يُحسُّ أن بيروت تصلح أن تختصرَ كل بلدان العالم في مساحتها الجغرافية الصغيرة، لأنها أكبرُ من كل القارات!
لبنان لم تكن بلدا، بل أريجُ عطرٍ مصنوعٍ من خلاصة الثقافة والفنون، ومن الحرية والانفتاح، من السلام والعدل، ظلتُ لبنان شامخةً عزيزة تستعصي على الكسر. لا تستغربوا، فهي اليوم هدفٌ للمتآمرين.