إن من يدَعون أن لبنان فينيقية ما هم إلا أفّاقون ومزوّرون للتاريخ والحقيقة, لغايات مصلحية دنيئة لخدمة مصالحهم الخاصة, ولخدمة مصالح خارجية أو أطماع أجنبية.
إنهم الذين يطلق عليهم العروبيون اللبنانيون وصف (انعزاليين) وإن هم إلا فئة ضالة, ضئيلة الحجم والتفكير ارتبطت بالمشروعات المعادية للأمة وتاريخها وتأملاتها.
نعم.. إنهم انعزاليون ارتبطوا بأعداء الغالبية من أبناء الشعب اللبناني, وأبناء الشعب في عموم المنطقة العربية, تارة تحت يافطة الفينيقية, وتارة تحت يافطة الدين والمذهبية, وغير ذلك من الترهات والمزاعم الغربية, والأكاذيب والأقاويل المأفونة.
ما كانت لبنان يومًا في التاريخ بقعة من سوريا مع فلسطين, وامتدادها شرق الأردن, تعلم كلّ الدنيا أنّ المؤامرة الاستعمارية البغيضة في سايكس بيكو 1916 هي التي قطعتها, أو مزقتها سياسيًا, للاستحواذ عليها مجزأة, وتحقيق مآربها الدنيئة فيها, وإضعاف قواتها وإمكاناتها وفي طليعتها إقامة كيان غربي للصهيونية تتساوق معها, ومع شركاء لها وجدوا أو يوجدون, من أمثال دعاة الفينيقية في لبنان بعد تكبيره 1920 على يد/ غورو/ بعيد هزيمة الدولة العثمانية, في الحرب العالمية الأولى وانسلاخ سوريا والشرق العربي عنها..
دولة لبنان الكبير
أما وقد أعلنت فرنسا انتدابها إلى لبنان بعد تكبيره, وإنهاء متصرفية جبل لبنان التي أقامتها الفئة الانتهازية الانعزالية عام 1861 إبان الحكم العثماني, وتدخل الدول الأوروبية الطامعة في إضعاف الدولة العثمانية, بإقامة هذا المتصرفيّة على أساس طائفية تلبي رغبة المارونية السياسية.
وما أن أعلن عن إقامة دولة لبنان الكبير حتى هبَّت طرابلس وبيروت وصيدا وصور وبعلبك, وكل مدن لبنان تعلن احتجاجها وعدم رغبتها بالانضواء تحت لوائها بعيدًا عن ظهيرها وخصمها سوريا..
ومن الطبيعي أن يطبل ويزمر لهذا "اللبناني" كل الانعزاليين والطائفيين, الذين سرعان ما أيدوا تسميته (الجمهورية اللبنانية 1926) برئاسة (شارل دباس) من الطائفة الأرثوذكسية خلافًا لما سارت عليه متصرفية يعبد (لبنان الصغير) التي كان متصرفها من الطائفة المارونية.
وهكذا تتبنّى سياسة الحكم الفرنسي بعد إجراء إحصاء 1932 لأول مرة في لبنان, وظهور أبناء الطائفة المارونية أنهم الاكثر عددًا, حتى تناوب عدد من الرؤساء على لبنان من أبناء هدا الطائفة حتى عام 1943 حتى كسرها الميثاق الوطني, وقد خصّص الرئاسة الأولى للطائفة المارونية, وكان أول رئيس للجمهورية اللبنانية (بشارة الخوري) ورئيس الحكومة من الطائفة السنية, وقد كان أول رئيس في هذا العهد (رياض الصلح) وأول رئيس للمجلس اللبناني كان الرئيس صبري حمادة من الطائفة الشيعية..
وإذ تتكرَّس الطائفية في لبنان, وتنتعش الأفكار الانعزالية, وتجاهر بأعلى الاصوات, تارة بان لبنان فينيقي (الأرومة) والاصل ولا علاقة بينه وبين جيرانه من الأزل, وتارة بأنه مسيحي في البيئة وكانت المنطقة خالية من المسيحيين ولا علاقة لها بالمسحية..
إنّها حجج وذرائع واهية, في محيط مأفون هيأته المصالح الطائفية الفينيقية, والأطماع الأجنبية الاستعمارية المتربصة بالمنطقة العربية باعتبار العروبة هي الإسلام, فكيف تكون لبنان غربية؟!
وبالمناسبة أذكر دعاة الطائفية السياسية والفكرية, وأذكر دعاة الفتنة وذوي المصلحة الخاصة من المسلمين أذكر بأن مسيحيي سوريا والمشرق الذين استقبلوا المبشر (دانيال بلبيس) مؤسس نواة الجامعة الأمريكية عام 1866، وقد أطلق عليها اسم (الكلية البروتستانتية السورية) وأنها هدية من شعب الولايات المتحدة الأمريكية للشعب السوري في بيروت, إذا لم يكن هنالك من يطلق عليه "شعب لبنان" إلا سكان متصرفية يعبدا, التي فرضتها الترتيبات الخارجية الطامعة في إضعاف الدولة العثمانية كما أسلفنا..
ومن جهة أخرى، فرضوا اللغة العربية لغة للتدريس في هذا الكلية التي أصبحت تسمى الجامعة الأمريكية عام 1920، وكانت السباقة بتدريس الطب والصيدلية باللغة العربية, منذ افتتاحها 1868 وذلك لمدة 16 عاما, في ذلك الوقت المتقدم, والذي تسود فيه المزاعم بأن اللغة العربية لا تستطيع تدريس العلوم العامة, والطب خاصة, ولا تزال الجامعات العربية تدرس هذه العلوم والفنون، إما باللغة الفرنسية أو الإنكليزية، ما عدا الجامعات السورية, والتي دحضت كل هذا التحريضات والخزعبلات..
كل هذا التمسك باللغة العربية إنما تم بجهود المسيحيين العروبيين في الديار السورية والذين تمسكوا باللغة العربية والثقافة العربية في الأديرة والمدارس, وفي سائر مجالات الحياة, اعتزازًا منهم بعروبتهم, أمام التركية والتتريك, حتى كادت اللغة العربية تصل إلى حدود الجفاف والاضمحلال..!
هذا, وقد لعبت الأديرة المسيحية في القدس وحلب وبيروت وغيرها من الديار السورية (الشام) قد لعبت دورا عظيما في الحفاظ على اللغة العربية وآدابها , وفي احتضانها لأولى المطابع ودور النشر والتأليف والفنون والمعارف ..
وفي هذا السياق ظهرت العديد من المدارس العصرية، ومنها تبشيرية للآباء اليسوعيين, واللعازاريين والكرملين.
الكبوشيين والفرنسيسكان والدومينكان وغيرها في كل ولاية سورية التي تضم لبنان إلى نهاية الحرب العالمية الاولى, والانسلاخ عن الدولة العثمانية ..
نضرب مثالًا واحدًا على ما آل إليه الأمر من الوضع في سورية وارتباط لبنان بها جنسًا وثقافة وحياة , تقول وقائع الجامعة الأمريكية ( الكلية الانجليزية السورية في بيروت ) انها خرجت من طلبتها في الفترة بين 1871 و 1907 154 طالبا من سورية و75 طالبا من مصر , وثلاثة من العراق و 69 اخرين من بقية الولايات العثمانية.. وهذا يعني أن عدد السوريين كان يشمل الفلسطيني واللبنانيين وامتدادهم عبر الأردن.. طبعًا الكلية السورية في أرض سورية لا فينيقية ولا أشورية ولا غيرها من التقسيمات التاريخية القديمة للأمة الكنعانية ...
أما تأسيس الكلية المارونية في الفاتيكان, في عهد البابا غريغوريوس عام 1584 والتي مثلث انفتاحًا ثقافيًّا على الغرب, ومحاولة الاستفادة من الليبرالية الثقافية العلمية, بعيدا عن جو الانغلاق الذي كانت تفرضه الذهنية العثمانية , وما تتبع ذلك من تخلف وانحطاط أصحاب الثقافة العربية , وقد كان الطلبة في هذه الكلية من أبناء الديرة السورية , من حلب , ودمشق , وبيروت وبيت المقدس والاسكندرية وغيرها . ثم إن الأمير (فخر الدين المعني) قد شجع في إمارته على أجزاء من سورية, انطلاقًا من لبنان السورية على استقبال أعمال الإرساليات الأجنبية في تأسيس المدارس والمؤسسات الثقافية, وخاصة مع إمارة (توسكانيا)، فيما تابع نفس السيرة الأمير (بشير الشهابي) انطلاقا من (دير القمر) تعرض الاستفادة من مخرجات التقدم الثقافي والحضاري في أوروبا, وانسحب الأمر على بعض حضارتهم، وقد غرقت هذه المدارس والجامعات ولا سيما اليسوعية والأمريكية في بيروت طلبة تألقوا في سيرة الحياة والحضارة حكاما وقادة رأي وعلماء في مختلف الاختصاصات والاتجاهات السياسية , لم يبدُ منها شذوذًا عن المألوف والنهوض بالأمة العربية والذود عن حياضها, أمام الأطماع الإمبريالية والصهيونية والانعزالية إلا قلة مأفونة تافهة لا تكاد ترى حتى تستعملها الجماهير العارمة بما تستحق من اللّعنات والاستنكار والعار..
المجد كلّ المجد في لبنان للعروبة والعروبيين من مسلمين ومسيحيين, وهم الأكثرية الساحقة في لبنان العز والكرامة, في وضح النهار والحقيقة الساطعة على ضوء السراج الوهاج, واعتزاز بتاريخ أميرة الحضارة فينيقيا العظيمة في مختلف الفجاج.