تكشف تصريحات مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط، نيكولاي ملادينوف الأخيرة عن انخفاض دخل السلطة الفلسطينية بنسبة 80% ووصولها حافة الانهيار، حجم التردي الاقتصادي الذي يعيشه أبناء الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، وما يمكن أن تسفر عنه قادم الأيام من تفاقم للأزمة.
تدعونا هذه التصريحات إلى القلق، والنظر بجدية لبؤرة التردي هذه، التي تضاف إلى بؤر مزمنة في المعاناة اليومية الفلسطينية، وما ستجلبه من مضاعفة مأساوية أحوال الشعب الفلسطيني، سيما مع تكالب الأزمات السياسية والاقتصادية والإنسانية على الفلسطينيين مع تفشي فايروس كورونا في الضفة والقدس وما جره من تعطل لأشكال الحياة ولعجلة الاقتصاد، إضافة لتصاعد انتهاكات الاحتلال من مصادرة للأراضي وتقطيع أوصال المدن والقرى، وهدم المنازل والتضييق على أبناء الضفة والقدس توطئة لمخطط "الضم" المشؤوم.
وتظهر شراسة الأزمة المالية في تأخر صرف رواتب موظفي السلطة في الضفة الغربية وقطاع غزة، واضطرار السلطة لصرف رواتب جزئية منذ شهور، وهو ما تشير إليه حدة الأزمة المالية، عقب اتخاذ السلطة قرار رفض استلام ضريبة المقاصة وقيمتها نحو 200 مليون دولار شهريا، كرد على اشتراط "إسرائيل" تراجع السلطة عن قرارها تعليق التنسيق الأمني معها عقب إعلان دولة الاحتلال قرارها بضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية.
تداعيات الأزمات الاقتصادية تضيق الخناق أكثر فأكثر على الفلسطينيين، سيما مع عدد الإصابات الكبير والوفيات نتيجة انتشار "كورونا"، حيث كان من مظاهرها إغلاق الشركات وتزايد أعداد العاطلين عن العمل، نتيجة فرض المزيد من القيود المفروضة على حركة المواطنين، وتطبيق إجراءات أكثر قسوة في مواجهة الجائحة كإعلان الإغلاق الشامل من حين لآخر.
وفي قطاع غزة يزيد الأوضاع مأساوية استمرار الحصار الإسرائيلي الجاثم على صدور الغزيين منذ 14 عاما، لتأتي الجائحة وتفرض قيوداً فوق القيود التي يعاني بسببها المحاصرون، حيث الحركة من وإلى القطاع باتت في أدنى حدودها، ليس فقط بين الضفة وغزة والأراضي المحتلة عام 1948، بل كذلك بين القطاع ومصر، إذا ما علمنا بأن معبر رفح مغلق منذ شهرين في كلا الاتجاهين.
بؤس أحوال الفلسطينيين الذي يتحمل مسؤوليته الاحتلال، والداعمون لسياساته، مرشح للتفاقم مع استمرار انقطاع رواتب موظفي السلطة المقدر عددهم بـ 177 ألف موظف، وما لها من انعكاسات ليس فقط على عائلات الموظفين بل على الأسواق التي تعاني كساداً، ما من شأنه أن يضعف قدرة التجار على الاستمرار في عملهم.
يضاف إلى ذلك تداعيات الجائحة وما باتت تنذر به من تدهور للأوضاع المعيشية والصحية والاجتماعية، الأمر الذي يستدعي التفكير بجدية بوسائل عاجلة تنقذ الشعب الفلسطيني من مآلات الظروف الراهنة، وإعادة تثبيت أقدامه على أرضه ليكمل مسيرته النضالية التي لا يمكن له أن يحيد عنها حتى استرداد حقوقه.
يدفعنا ذلك لطرح تساؤلات حول ما آلت إليه سياسات شح الدعم المالي العربي والإسلامي من جهة، وكذلك الدعم الأوروبي في السنوات الأخيرة، إلى جانب توقف الدعم الأمريكي للأونروا، وإعلان إدارة ترامب ودولة الاحتلال الحرب العلنية على الوكالة التي تقدم دعماً إنسانياً في المجالات الصحية والتعليمية للاجئين، ألم يئن أوان تشكيل هيئة عربية وإسلامية تؤدي دوراً بديلاً أو موازياً لمصادر الدعم الدولي المشروط، ويكون من مهامها تقديم الدعم المالي والسياسي والمعنوي للشعب الفلسطيني لدعم صموده على أرضه؟.
كما أن حث المنظمات الدولية لأداء أدوارها المنوطة بها في مختلف المجالات الإنسانية والسياسية والاقتصادية، والقيام بمسؤولياتها تجاه شعب يقاسي ويلات الاحتلال والوباء، يعد أمراً ملحاً، في وقت تفرض حقائق مقلقة نفسها كاعتبار الأراضي الفلسطينية اليوم من الأكثر احتياجاً للدعم مع ارتفاع أعداد المصابين بفايروس كورونا، وما أوجده الوباء من تبعات إنسانية صعبة.
بينما المطلوب فلسطينياً من الناحية الاجتماعية العمل بشكل دائب على إنتاج حالة شاملة من التضامن الاجتماعي، وتكثيف أداء مؤسسات المجتمع المدني، وإعطاء الأولوية للجانب الإنساني والإغاثي، وتفعيل دور اللجان التطوعية في المجتمع الفلسطيني لخدمة أبناء شعبها.
ومن الناحية السياسية تستدعي الحاجة الوطنية استكمال مشوار إنهاء الانقسام الذي بُدئ أخيراً بخطوة لقاء القياديين "الفتحاوي" جبريل الرجوب و"الحمساوي" صالح العاروري، بعدما جاء كبادرة على طريق تعزيز الوحدة الوطنية الفلسطينية في مواجهة مخطط "الضم"، وصفقة القرن، والمضي نحو الاتفاق على أشكال المقاومة الشعبية، وطرق التصدي لمخططات الاحتلال وداعميه.
حساسية الوضع الفلسطيني إنسانياً وسياسياً واقتصادياً تفرض على الفلسطينيين تعزيز أدائهم السياسي والدبلوماسي لرسم خارطة طريق تبدأ بوحدة القرار الوطني، وتقوم على أساس التمسك بالثوابت وأهمها حق العودة، وعدم التفريط بالقدس كعاصمة لدولة فلسطين، وبمقدساتها الإسلامية والمسيحية، ورفض المخططات الصهيو-أمريكية الهادفة لتصفية القضية الفلسطينية لصالح دولة الاحتلال، والاتفاق على وسائل المقاومة المناسبة، دون التنازل عن أي من أدواتها النضالية في مرحلة تتطلب الإمساك بكافة الأوراق السياسية للوقوف بصلابة في وجه مؤامرات تصفية القضية.
من شأن توحيد الصف الفلسطيني أن يكون الدافع والمحرك لتعزيز موقف شعبي عربي مساند وداعم للشعب الفلسطيني ولقضية الأمة المركزية، يعيد القطار إلى سكته، وبالتالي يكون محفزاً لتوحيد الموقف الرسمي العربي، والتأكيد على تأديته لالتزاماته القومية، وتكريس القناعات بأن السير بشكل معاكس لطريق دعم القضية الفلسطينية سيكون المقامرة الأخطر في مستقبل الأوطان العربية ومقدراتها وثرواتها، أمام عدو صهيوني طامع ليس من إستراتيجيته التوقف دون تحقيق مشروعه الاستعماري التوسعي في المنطقة.