فلسطين أون لاين

السراج الوهاج.. فينيقيا بين طيبة وقرطاج (1-2)

يبدو أن انتهاء العصر المطير في جزيرة العرب، قبل نحو عشرة آلاف عام قبل الميلاد، أدى إلى عدد من الهجرات البشرية، من شبه جزيرة العرب، باعتبارها مهد الجنس البشري؛ كما يقول معظم الباحثين في هذا الشأن.

هذه الهجرات تمت على التتابع إلى جميع الأنحاء؛ إلى حيث الماء والخصب والحياة، بعد الجفاف وقلة الأمطار.

ولعل هجرة الكنعانيين من جنوب وشرق الجزيرة العربية، في الألف الرابع ومنتصف الثالث قبل الميلاد، كانت الهجرة الأولى نحو الشمال؛ حيث بلاد الهلال الخصيب، أي بلاد الرافدين والشام أو (الميزوبيتيميا)، كما يقول المختصون.

ولعله من اللافت للنظر أن هنالك من يدعون بأن لبنان الحالي هو بقية من فينيقيا الكنعانية؛ لكنهم يفصلون فينيقيا على هواهم دون أي انتماء إلى كنعان، وكأن فينيقيا جاءت من السماء!.

طبعاً؛ هذا لأغراض دنيئة في نفوسهم؛ لأن الهجرة الكنعانية حطت رحالها بعد المجيء من الجزيرة العربية، في كل بقاع الهلال الخصيب، ومنها كل حواضر شرق البحر الشامي (المتوسط) من "أوغاريت" إلى غزة، مروراً بجبيل، وصيدا وصور، وعكا وغيرها؛ ليحلو لهم تفصيل فينيقيا خاصة تدير ظهرها لشقيقاتها: أشور، وأكاد، وسومر، وعيلام، وأرام وغيرها في محط هذه الهجرة الكنعانية!.

وعليه فإن "أشور" تعني باللغة الكنعانية العروبية الشرق. وهكذا قيل "أشوريون" أي شرقيون، وأن أكاد تعني الغرب، وأن أهلها الغربيون؛ فيما نهر الفرات هو الحد الفاصل بينهما. أما الذين سكنوا الساحل بين "أوغاريت" شمالاً و"عكا" جنوباً؛ وقد برعوا في صناعة الصباغ الأرجواني، وأشرعة سفنهم بهذا اللون؛ فقد أطلق عليهم الإغريق اسم "فينوقوش" بمعنى الأرجواني، وبه كانوا فينيقيين.

وماهم إلا كنعانيون، من الحواضر الكنعانية البحرية؛ بل إن منهم من استوطن جزر هذا البحر وأطرافه الإفريقية جنوباً وأطرافه الأوروبية شمالاً؛ وقد ظلت أساطيلهم تمخر عبابه في كل الاتجاهات، تحمل المتاجر والمواد الأولية، من إنتاجهم وانتاج شعوبهم؛ انطلاقاً من أقصى شرقه إلى أقصى غربه حتى اخترقوا مضيف "الزقاق" أي مضيق جبل طارق إلى الأطلسي وشواطئه الإفريقية والأوروبية؛ حيث بنوا أكثر من 760 مرفأ ومدينة وقرية، كما توغلوا في داخل تخومه بناة معمرين لأول الحضارات في تلك الربوع وليدمغوها بطابعهم، وأسمائهم، ومن ثم حُكمها وإدارتها قبل أكثر من ألف عام قبل الميلاد.

هنا يمكن أن نُشير إلى حديثين عظيمين في البناء والعمران، وحدث ثالث في المعرفة والفكر؛ وبه كان فجر التاريخ.

هذه الأحداث أمثلة فقط على إسهامات فينيقيا العروبية في البناء الحضاري العالمي.

الحدث الأول كان في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، وقد أطلقته مملكة أوغاريت (راس شمرا) شمال اللاذقية، وقد كان ابتكار أول أبجدية في التاريخ (أبجدية أوغاريت) التي بها كان فجر التاريخ .

أما الحدثان الأول والثاني؛ فقد انطلقا من مملكة صور في عهد ملكها "أجينور" الذي نازعته ابنته الاميرة(أروبة أوعروبه) إثر قتله لزوجها، ما حدا بها لإعلان العصيان على أبيها والانشقاق بقسم من الأسطول، للبحث عن مكان تلجأ اليه، حيث رست على فرضة طبيعية على الساحل الشمالي للبحر الشامي (المتوسط) المتاخم لقارة كانت مجهولة الاسم والهوية، يسكنها أناس بيدائيون من خلفاء انسان (نياندرتال) من سكان المغاور والكهوف.

وهكذا شيدت " أوروبة بنت أجينور " أول مدينة حضارية؛ كانت الأولى فوق سطح الارض في ديار الكهوف والمغاور تحت الأرض وقد اطلقت عليها اسم (طيبة) تقع اطلالها على مقربة من عاصمة اليونان أثينا، ويقال لها (ثيبيس)... اتخذتها قاعدة ومرفأ للحياة والحركة في هذه الديار قبل 1500عام ق. م..!!

وبين الحقيقة والأسطورة يشتاق والدها الملك لاسترضائها فيرسل ابنه (قدموس) بما تبقى من الاسطول للبحث عنها، وجبر خاطرها. يقوم قدموس بالمهمة، ويلتقي بأخته في عاصمة مُلكها طيبة المزدهرة حضارة وعمرانا وكذا الى نهاية سعيدة بعد مأساة ، ليصبح اسم تلك البقعة ديرة (أوروبة) التي أصبحت أوروبا المجاورة لقارتنا آسيا اليوم .!

أما ما جلبه (قدموس) معه في رحلة البحث عن (عروبة) فكان الأبجدية والكتابة التي أشاع العمل التجاري والفكري بها والتي كانت القاعدة التي اخذت منها الأبجديات الإغريقية والسلافية واللاتينية أسس كتابة ابجدياتها.

وأما الحدث الاخر؛ فقد انطلق من مملكة صور في مرحلة لاحقة نحو القرن الثامن قبل الميلاد حيث اختلفت الاميرة (اليسار ديدون) أو أليسا مع أسرتها على مقتل زوجها ، وخرجت مع أنصارها في حركة احتجاجية أخدت بها وبأتباعها إلى الساحل الجنوبي الافريقي للبحر الشامي؛ حيث سبقها الكثير من قومها هناك، قبل بضع مئات من السنين، وقد استقبلوها في هذه الديار(البونيقية) الخليط بين الفينيقية والإفريقية؛ حيث استقرت وبنت مدينتها (قرطاج) أي "قرتا حتشت" التي تعني المدينة الجديدة، حاضرة لأعظم دولة في تخوم البحر الشامي؛ حضارة وعمرانا ومستعمرات جاوزت أكثر من 750 مدينة ومرفأ على شواطئ هذا البحر، وما اتصل به من بقاع.

ومن هذه المدينة انطلق القائد القرطاجي " هنبعل" يحتل مدينة روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية على البحر المتوسط الاوروبي ناهيك عن احتلال شبه جزيرة (ايبيريا) أي اسبانيا والبرتغال في تلك المرحلة الموغلة في التاريخ ، ودمغها بطابعها الذي ظل ماثلا عبر التاريخ الى ان فتحها العرب المسلمون في أواخر القرن الثامن للميلاد في عهد الخليفة الاموي ( الوليد بن عبد الملك ) واشاعة حضارة لم يعرف لها التاريخ مثيلا قرابة 800 عام، ما زالت آثارها تروي أحداث مأساة ملهاة يتحسر فيها بعض الإسبان على ما كان.

ليتني أتوقف هنا في ملهاة ومأساة المصباح الوهاج لنواصل المشوار إلى ما تبقى، لنرى ما وصلنا إليه اليوم في رحلة التيه بين طيبة، وقرطاج، وما بين كل هذا وما بين لبنان وفلسطين من منغصات وآلام، وكأن فلسطين في المريخ، ولبنان في المشتري.

عسى أن نكون على عتبة دنيا خير وسعادة وبزوغ فجر جديد يمحو دياجير الظلام.