منذ فجر تاريخ البشرية عرف الإنسان صراع الحق والباطل، حيث مثل الحق الطهارة والنقاء والأصالة، في حين تمثل الباطل في الغدر والخيانة والنجاسة، وبقي الصراع الأزلي بينهما يظهر في كل عمل إنساني سواء كان جماعياً أم فردياً، ومن الطبيعي أن تنحاز الفطرة السليمة أفراداً وجماعات للحق، بينهما تنحاز الفطرة السقيمة إلى الباطل، وقد يلتبس في بعض الأحيان الحق والباطل على كثير من الناس، وذلك حين يلبس أدعياء الباطل أثواب زائفة، لا تعبر عن مكنونات نفوسهم المريضة، في محاولة للوصول إلى أفئدة عوام الناس من أصحاب الفطر السليمة للسيطرة على عقولهم، وسوقهم في مشاريع الباطل التي تسببت في شقاء الإنسانية وخلفت ما خلفت من بؤس وظلم.
طهارة النفس وطهارة اليد وطهارة السلاح، هي المظهر الأبرز لأم القضايا التي انحاز لها أصحاب الفطر السليمة في فلسطين، فكانت المقاومة الفلسطينية التي حملت على كاهلها عبْء المشروع الوطني الفلسطيني، الذي ناءت بحمله كواهل كثير ممن التبس عليهم صف الحق من الباطل، فانهارت أمام مغريات الباطل مبادئهم وقيمهم وثوابتهم، واتبعوا أهواءهم السياسية التي زينتها لهم قوى البغي والباطل، وانساقوا في طريق وعر مظلم واصطفوا من حيث لا يشعرون في صف الباطل.
وبقيت المقاومة وحدها تقاتل بطهارتها وجوعها ولم تقبل أن تأكل بثدييها.
ربما يذكرنا موقف السيد إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الذي أعلن عنه مؤخراً برفض قبول هذا الإغراء السخي والدنس، من قوى الباطل بموقف تاريخي قبل حوالي مئة عام، عندما رفض السلطان العثماني عبد الحميد عرضا سخيا آخر، ملوثا بسموم المكر الصهيوني، قدمه هرتزل للدولة العثمانية في أشد لحظات ضعفها، ليساومها على مبادئها وقيمها فرفضت وسطر السلطان عبد الحميد كلمات مضيئة بقي نورها منساباً عبر السنيين.
"انصحوا هرتزل بألا يتخذ خطوات جدية في هذا الموضوع فإني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من أرض فلسطين، فهي ليست ملك يميني، بل ملك الأمة الإسلامية، ولقد جاهد شعبي في سبيل هذه الأرض وروّاها بدمه، فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مزقت دولة الخلافة يوما فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن.. ولكن التقسيم لن يتم إلا على أجسادنا".
مضى السلطان عبد الحميد وبقي موقفه الثابت الشامخ الذي خلده التاريخ، وها هو التاريخ يعيد نفسه من جديد، ليتردد الموقف مرة أخرى وكأنه صدى قادم من عبق التاريخ، ولكن بصيغة أخرى ومن فم رجل اخر من رجال يصنعون التاريخ بمواقفهم وأعمالهم.
كثير من الكلمات تقال، وقليل منها تكون له قوة ألف ألف طلقة، وكثير منها تحلل ما حرم الله والبشر، فكم من الأوطان بيعت بكلمة، وكم من المبادئ أهدرت بعبارة، وكم من الحقوق ضيعت بتوقيع.
صحيح أن الرجال تصنع المواقف ولكن صحيح أيضا ان المواقف تظهر عظمة الرجال وكأنها حلقة متصلة منذ أن كان الموقف الذي يسمو على كل المواقف، حينما قال صلى الله عيه وسلم: والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري لكفار قريش، ليرسم بذلك خطا فاصل بين صف الحق والباطل ويمتد مداه عبر التاريخ لمواقف لا يفقهها إلا العظماء، التي تشهد لها مشاهد التاريخ الصادقة مرورا بموقف الرشيد من ملك الروم وموقف صلاح الدين في بيت المقدس وموقف سيف الدين قطز من هولاكو وموقف السلطان عبد الحميد من هرتزل ويمتد هذا الإرث الخالد حتى التاريخ المعاصر حيث موقف هنية التاريخي والبطولي، الذي اتخذه في أشد لحظات الحصار والضيق وطأة، وقد ظن نخاسوا السياسة أن المسرح قد هيئ، وأن ثمار الحصار المر قد استوت على سوقها، وليس أمام المقاومة إلا ان تقبل بالعرض المدنس، وقدموا عرضهم ليأخذوا الموقف الذي أخذوه من قبل وفي ظروف مشابهة من آخرين، لم تحل بينهم وبين قبوله عقيدتهم التي حملوها لأنها ناقصة بنقص البشر. ولكن هيهات لعقيدة من صنع رب البشر أن تزل بقدم بعد ثبوتها، فكان الجواب كشمس تشرق من بين غيوم سوداء (تموت الحرة ولا تأكل بثدييها).
إنها كلمات ذهبية تعبر من مبدأ ثابت، بأن الوطن لا يقوم بالمال وتهون في سبيله التضحيات ومن أجله تقدم الأرواح والمهج.