لم يكن مفاجئًا إعلان رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية رفض حركته، قبل شهرين، عرضًا دوليًا بقيمة 15 مليار دولار مقابل تفكيك المقاومة وفصل قطاع غزة عن فلسطين المحتلة.
توقيت العرض يتصل تمامًا بالصفقة الإجرائية التي تعمل الإدارة الأمريكية مع حكومة الاحتلال الإسرائيلي من خلالها على تصفية القضية الفلسطينية، وهذا الأمر لا يتم بدون إخضاع المقاومة الفلسطينية، وإخضاع حركة حماس تحديدًا، ومنحها "رشوة القرن" التي قد تقبل بها في ظل ضائقتها، وتُشغلها عن تمرير المخطط، وفق معادلة العرض والطلب، وإلا فما الحاجة لعرض بهذا السخاء.
لكنه سوء تقدير من القوى الكبرى، عززه الرفض القاطع لهنية واستحضاره الحكيم للعبارة المشهورة "تموت الحرة ولا تأكل بثدييها"، وهو موقف للتاريخ يثبت ضمن أول دلالاته، أن حماس مكوّن متجذّر وأصيل من الأمة التي قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إن "الله أراد لها العِزّة".
إن هذا العرض، وفي هذا التوقيت، يؤكد أن الاحتلال والقوى الكبرى التي تعنيها مصلحة "إسرائيل" وأمنها، أدركت عدم جدوى الخيار العسكري مع المقاومة الفلسطينية، وحماس بالخصوص؛ في مهمة إخضاعها وإنهاء وجودها، وانتقلت إلى مسار سبق أن سلكته مع حركة فتح، ونجحت فيه، لكن كان من الغباء أن ينصب الفخ مرتين.
يكشف العرض عن عدم معرفة كافية لدى القوى الكبرى بقيمة الثوابت لدى حماس، التي صانتها بالدماء والقادة الشهداء، كما أنه ليس جديدًا، وبالتالي فإنه يؤشر إلى أن هذه القوى لن تكفّ عن المحاولة مع حماس، واتباع سياسة الاستمالة والنفس الطويل معها، وتقديم الإغراءات السياسية التي يمكن أن تدفع الحركة لمجرد التفكير بالعروض، بما يشكل مدخلًا لنشوء مسار تفاوضي جديد.
وفي المقابل، فإن الرفض القاطع لحماس لهذه العروض لا يعني التشدد وعدم الانفتاح على عروض أو مبادرات دولية أخرى، وهذا ما يجب إلحاقه بصيغة الرفض، والتأكيد دومًا على مبدأ أن القبول يكون على قاعدة "الحقوق، وليس مقابل ثوابت سياسية أو نزع سلاح"، وهذا ما تؤكد عليه الوثيقة السياسية للحركة.
كما أن تكرار هذه العروض، يفرض على السلطة الفلسطينية وحركة فتح قراءة التوجّه الإقليمي بعناية، وتقدير الموقف الوطني لحماس وتمسكها بوحدة الوطن، والثناء على هذا الموقف واحترامه، والاستجابة لدعوات الشراكة السياسية الحقيقية، ويثبت كذلك زيف وبطلان كل اتهامات فصل غزة عن الضفة، التي وجهت لحماس، وبهذا لن يكون مقبولًا تكرار هذه الدعاية.
إن تقديم 15 مليار دولار مقابل سلاح المقاومة، هو اعتراف إسرائيلي ودولي بقوة هذا السلاح وتأثيره، والأهم نجاحه في فرض قاعدة أن الحلّ مع المقاومة لا يكون بالخيار العسكري، وإجبار الكبار على اقتراح الحلول السياسية، وهذا تطور مهم رصده وقراءة أبعاده جيدًا.