ليست المرة الأولى التي تتناول فيها شخصية رسمية عربية حلّ الدولة الديمقراطية الواحدة، أي دولة فلسطينية إسرائيلية على أرض فلسطين الانتدابية؛ تساوي بين الفلسطيني والإسرائيلي.
أثار تصريح رئيس الوزراء الأردني، عمر الرزّاز، لصحيفة "غارديان" البريطانية، مؤخراً، والذي قال فيه إن الأردن قد تنظر بإيجابية إلى حلّ الدولة الديموقراطية الواحدة، شرط أن تسود فيها المساواة بين الطرفين، موجة من التعليقات العربية، منها الرافضة، ومنها المبَرِّرة، ومنها المتسائلة إن كان موقفاً تكتيكياً أم تحولاً استراتيجياً في الموقف الأردني؟
ليست المرة الأولى التي تتناول فيها شخصية رسمية عربية حلّ الدولة الديموقراطية الواحدة، أي دولة فلسطينية إسرائيلية على أرض فلسطين الانتدابية؛ دولة تساوي بين الفلسطيني والإسرائيلي. كانت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قد اعتمدت هذا الحلّ في نهاية الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، لكن ذلك الزمان غير هذا، وموازين القوى بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، السياسية والعسكرية والاقتصادية وغيرها، والتي يُفترض أن تكون أساساً لمثل هذا الحل، مختلفة تماماً اليوم عما كانت عليه سابقاً، مع قناعتي بأنَّ ذلك الطرح لم يكن ممكناً ولا عادلاً آنذاك أيضاً.
أما قذف الكرة نحو الملعب الإسرائيليّ، فقد سبقه مسؤولون فلسطينيون، وعلى رأسهم الرئيس أبو مازن، وإن فعلوا ذلك، من باب "التكتيك" أو التهديد الوهمي بغلبة الفلسطينيين في الميزان الديموغرافي داخل الدولة الواحدة، وهذه خرافة أو وهم آخر أيضاً! إضافةً إلى ذلك، هناك حلقات أكاديميّة فلسطينيّة مقرّبة من السلطة، وقليل منها إسرائيليّ وهامشيّ، تعمل برعاية صناديق أجنبيّة، ومنها برعاية أميركية أيضاً، لتقديم الأبحاث والأفكار عن حلول "إبداعية" أو "خارج الصندوق"، كما يقول د. ساري نسيبة، بعيداً من القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة بقضية فلسطين.
أما المشترك بين الجميع، فهو القناعة بفشل حل الدولتين، كما اقتنعوا في السابق بفشل الجهد لتحرير فلسطين، وبعدم واقعية اقتلاع المستوطنات من الضفة الغربية و"القدس الشرقية"، خوفاً من اتهام الفلسطينيين "بعملية ترانسفير للمستوطنين اليهود"! وعجز الأنظمة العربية عن مواجهة (إسرائيل) عسكرياً، وفشل المجتمع الدولي في حماية حقوق الشّعب الفلسطينيّ أمام العنجهيّة الإسرائيلية المدعومة أميركياً، والتي تضرب بعرض الحائط أُسس القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة... إلى ما هناك من قناعات تعبّر عن عجز متراكم لتغيير الواقع الاستعماري في فلسطين.
هذه، بالضبط، هي الحالة التي تتمنّاها (إسرائيل) في الوقت الحاضر، وسوف أعود إلى ذلك لاحقاً.
الرزّاز، لم يكن أول من تناول هذا الطرح "بإيجابية"، أو بقصد "تحدي إسرائيل"، كما يدعي، لكن أحداً ممن تناول ويتناول هذا الحل المقترح لم يجب على الأسئلة الصعبة التي لا بدّ من أن تطرح وتلقى أجوبة مناسبة لها.
ما اسم هذه الدولة؟ يخطئ من يعتقد أن ذلك موضوع ثانوي، فاسم الدولة هُويتها. ما هو عَلَمُها ونشيدها الوطني؟ ماذا عن حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم ومزارعهم والتعويض كما نص عليه قرار 194؟ من سيعيد الأرض التي صادرتها (إسرائيل) من الفلسطينيين لبناء المستوطنات في الضفة أو القدس أو داخل مناطق الـ48 والأراضي العامة التي استولت عليها لصالح المستوطنين اليهود، بصفتها الدولة الوريثة للانتداب البريطاني؟ ولا يقتصر الأمر على المساحات المبنية، بل على مساحات مضاعفة عشرات المرات وأكثر خصّصت للمستوطنين لتكون مصدر رزق لهم؟
هنا، لا بدَّ من أن نتذكَّر كل المفاوضات لإعادة أهالي إقرث وبرعم إلى قراهم المهدمة، وعناد المستوطنين "اليساريين"، أبناء الكيبوتسات المجاورة، الَّذين استولوا على الأراضي الخاصة لأهالي القريتين، وإصرارهم على الاحتفاظ بتلك المساحات الواسعة ضمن أي حل يعيد الأهالي إلى بيوتهم. هذا هو موقف "اليساريين" منهم، فكيف سيكون موقف اليمين الفاشي المنتشر في الضفة الغربية؟
الأسئلة ليست سهلة؟ ورغم ذلك: ماذا عن الديموقراطية والمساواة في الحقوق والواجبات؟ هل سيندمج الجندي الفلسطيني أو الشرطي أو رجل الأمن في المؤسسة الأمنية المشتركة أو سيكون لكل طرف مؤسسته الخاصة؟ ما هو دور رجال الأعمال الفلسطينيين في الاقتصاد الإسرائيلي الضخم والمهيمن إقليمياً؟ هل هم شركاء أم خدام له ومسوّقون للبضاعة التي ينتجها الصناعيون اليهود؟
هل يستطيع الفلسطيني أن يستذكر شهداءه الذين ارتقوا في صراعه مع الحركة الصهيونية أو أن استذكارهم سيحسب استفزازاً للمشاعر الإسرائيلية؟ ما هو العلم والنشيد الوطني المشتركان بين ابن الحركة الصهيونية الاستعمارية وابن الشعب الفلسطيني المقهور؟ وأسئلة كثيرة جداً لا يتّسع المقال لعرضها.
قد يقول قائل: لماذا تضع العراقيل ولا ترى الوجه الإيجابي للمشروع؟ والجواب: ألم تقولوا هذا الكلام عشية أوسلو؟ ألم نسألكم أسئلة أقل صعوبة من هذه، فقلتم: إن النتائج المرجوة هي "تحصيل حاصل لعملية السلام"!؟ فهل تأتون لنا بمحصول أفضل مما أتيتم به لغاية الآن في ظروف أصعب مما كانت عليه آنذاك؟
عندما سألت السيد عوض عبدالفتاح (من قيادة أبناء البلد سابقاً، والأمين العام للتجمع الوطني الديموقراطي لاحقاً)، وأحد المروجين الفلسطينيين لهذا الطرح حالياً، بعض هذه الأسئلة، أجاب: الدولة الديموقراطية الواحدة تعني "تفكيكاً للمشروع الصهيوني". ولذلك، لن يكون لهذه الأسئلة مكان. قلت له: إذا كنتم عاجزين عن تفكيك مستوطنة واحدة، فكيف ستكونون قادرين على تفكيك المشروع الصهيوني؟
وحده من لا يفهم ماهية هذا المشروع على أنه مشروع دولي استعماري، يمكن أن يتحدث بهدوء عن إمكانية تفكيكه بالاتفاق. ومن لا يفهم جوهر الأيديولوجيا الصهيونية وجذورها الفكرية، الاستعمارية والعنصرية، الراسخة في العقيدة الدينية اليهوديّة والعقيدة الاستعمارية العامة، يمكنه أن يتحدث بهدوء أعصاب عن المساواة بين الفلسطيني واليهودي في دولة واحدة.
وأخيراً، لنقل فرضاً إنه حصل اتفاق، وهو متخيل في نظري، فمن يضمن تنفيذه؟ هل تعتمدون على النيات الحسنة للإسرائيليين الصهاينة أو هناك دول "صديقة" ضامنة للاتفاق؟ إذا كان العالم كلّه، وحتى الأمم المتحدة، لم يستطع ضمان أدنى الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني بتنفيذ اتفاقيات أوسلو، وهي ظالمة للشعب الفلسطيني إلى أبعد الحدود، فكيف سيضمن حقوقاً كاملة في دولة واحدة؟! ألم تكفنا مراجعة تجربة 72 عاماً من "التعايش" بين الفلسطينيين واليهود في الأراضي المحتلة عام 1948، في حين يحمل الفلسطيني مواطنة وجنسية إسرائيلية وحق الانتخاب وما إلى ذلك، لنفهم أن الطروحات الوهمية لا تجلب إلا نتائج وهمية!
يقول آخر إنّ الأسئلة التي تطرحها ستكون مواضيع للتفاوض بعد قبول مبدأ الدولة الديموقراطية الواحدة، وأجيب: لم تقم أيّ شخصية إسرائيلية رسمية بقبول هذا المبدأ لغاية الآن، ولن تفعل، فحتى "اليساري" منهم يرى في هذا الطرح خطراً على الديموقراطية وعلى يهودية الدولة، فهل تريدون إدخالنا إلى نفق جديد لمائة سنة جديدة من مسيرة التفاوض العبثية والأبدية؟ شعبنا الفلسطيني لم يتعب من النضال لنيل حقوقه، وإنما تعب من التفاوض العبثي الذي عمّق، ولا يزال، المأساة الفلسطينية.
من المهمّ أن نلاحظ أن مثل هذه الطروحات "التكتيكية" لا يتلقَّفها الإسرائيليون ولا يلعبون بها، كما يتمنى "التكتيكيون" العرب، إنما تعطيهم الأمل بأنَّ موعد الاستسلام الفلسطيني قد اقترب، ليس على الصعيد الرسمي فقط، وإنما على الصعيد الشعبي أيضاً، والذي يبدأ باستسلام الأكاديمي والمثقف العاجز عن تحقيق أهدافه، وهو أكثر من يستطيع تبرير عجزه بالأفكار والحلول "الإبداعية" الوهمية، فالانتصار الحقيقي، يقول دانيئيل بيبس، مدير مركز الأبحاث الصهيوني "منتدى الشرق لشرق الأوسط" في الولايات المتحدة، وهو المركز المقرب من إدارة ترامب ونتنياهو، لا يتمثل بالانتصار العسكري فقط، بل باقتناع العدو (العربي عامة والفلسطيني خاصة) على الصعيدين الرسمي والشعبي، بأنه غير قادر على تغيير الواقع الجديد، أي واقع الاحتلال الإسرائيلي والاستيطان، وهذا ما يشير إليه طرح الدولة الواحدة الخيالي أو الوهمي. عندها فقط، تستطيع الحركة الصهيونية أن تعلن انتصارها الحقيقي.
هذا الطرح يدعو في جوهره، وإن لم يعلن ذلك، إلى قبول المبدأ الذي يروج له ترامب ونتنياهو، وهو القبول بالأمر الواقع والتعايش معه، بعيداً من القانون الدولي ومجلس الأمن، وهو يعني القبول بالهيمنة الإسرائيلية وفرض لغة القوي وانصياع الضعيف له، ويعني تنازل الشعب الفلسطيني عن حقه في تقرير المصير، من خلال دولة مستقلة ذات سيادة، حاضنة لمبدعي شعبها، ومشاركة فاعلة في بناء الحضارة العالمية.
على صعيد آخر، يشبه هذا الطرح إلى حد كبير ما تعارف عليه غالبية العرب أو بعضهم في حياتهم الاجتماعية، بتزويج المغتَصَبة من مغتصِبِها، "صوناً للعار"، وتعبيراً عن عجزهم الموروث في صيانة العرض والشرف المزعومين، فمن لا يستطيع أن يصون شرفه الوطني، فكيف يصون شرفه الشخصي؟ لأن العاجزين لا يصنعون المستقبل، ولأن العجز هو آخر مراحل الحياة.