في رد استباقي خطير على الولايات المتحدة الساعية إلى تمديد حظر الأسلحة على إيران، وقع اتفاق استراتيجي بين إيران والصين مدته 25 سنة يؤسس لجنوح إيراني نافر باتجاه الصين، قد يقلب المعادلات السياسية والاقتصادية والعسكرية، ويقدم لبكين فرصًا إضافية للتمدد في المنطقة، وقد يؤدي الاتفاق إلى متغيرات ونتائج في منطقة الشرق الأوسط تقلب التوازن الجيوسياسي فيها، عبر بسط سيطرة الصين وروسيا المستفيدة من الاتفاق على مقدراتها، مع تراجع واشنطن الملحوظ عن همومها، علما بأنه لا يمكن إغفال ما قد يصيب حلفاءها من تداعيات جراء هذا الانعطاف الإيراني.
ومن المفيد الآن النظر إلى وقع هذا التقارب في أروقة القرار الأمريكي، عبر متابعة مواقف مرشحي الانتخابات الرئاسية الأمريكية من الملفات الرئيسية في منطقتنا في ظلّ ما تشهده الولايات المتحدة؛ دونالد ترامب الذي يسعى إلى تجديد ولايته، والمرشح الديمقراطي جو بايدن.
تواجه الولايات المتحدة جملة تحديات خارجية أبرزها:
التحدي الصيني، وآخر تجلياته الاتفاق المذكور مع إيران الواقعة تحت ما يوصف بأقصى العقوبات الأمريكية. فعلى الرغم من جائحة «كورونا» وتأثيراتها على الداخل كما على علاقات الصين الخارجية وسمعتها، فهي تبقى في نموها وطموحاتها الآسيوية وتلك التي تتخطى حدود القارة، قوة صاعدة تأخذ الحيز الأكبر من الاهتمام الأمريكي.
التحدي الروسي مع السياسة التكتيكية التي انتهجها فلاديمير بوتين في المنطقة محققا نجاحات لا يمكن تجاهلها، أعادت روسيا إلى نادي القوى العظمى على الرغم من اقتصادها أحادي الوجه والهنات التي تعانيها.
التحدي الأوروبي مع ما تواجهه أوروبا من تحديات داخلية اقتصادية جراء تداعيات «كورونا» وضعف مزمن، وخارجية أبرزها طموحات الجار الروسي القريب ورغبته في استعادة الدور السوفياتي القديم، والتوسع الصيني والسياسة الأمريكية المتذبذبة تجاهها، وبالتحديد علاقاتها مع الحلف الأطلسي وانسحابها من الاتفاق النووي، وما رافقه من متطلبات أمريكية فرضت على الحلفاء الأوروبيين، وخلقت اختلالا بالثقة ومناخا غير سويّ معهم، باستثناء بريطانيا بعد وصول بوريس جونسون إلى رئاسة الحكومة.
وسط كلّ هذه الوقائع، يبدو الشرق الأوسط مشتعلا يتخبّط في حروب في أكثر من دولة ونزاعات داخلية ذات أبعاد طائفية ومذهبية وعرقية، مضافة إليها أزمات اقتصادية واجتماعية وصحية. فما القضايا الأساسية في سجال المرشحيْن الرئاسيين، وما احتمالات مواقفهما تجاه المتغيرات وتداعياتها على منطقتنا في حال فوز أي منهما؟
لا تزال منطقة الشرق الأوسط تقع تحت وطأة ثوابت ثلاثة، ميّزت السياسة الخارجية الأمريكية منذ أكثر من عقد ونيف؛ أولها قرار أمريكي استراتيجي بالتحول نحو آسيا وإعطائها الاهتمام الأكبر، وثانيها اعتمادها الانتقائية حيال قضايا الشرق الأوسط بمعنى التدخل وفق معيار تقدير المصلحة الأمريكية العليا، وأهلية الحليف للدعم في قضية أساسية لأمريكا، وثالثها أمن إسرائيل.
وفي خضم هذه الثوابت برزت قضية محورية بالنسبة إلى واشنطن هي إيران، فدخلت في مواجهة دبلوماسية وعسكرية واقتصادية معها بسبب ملفات رئيسية، أبرزها طموحها النووي وتمددها في الإقليم وإثارة المشكلات والنزاعات والحروب فيه. واليوم، اتخذ الخلاف مع إيران أبعادا أخرى بسبب توطيد علاقتها مع الصين وروسيا، التي تسهم في تخفيف حدّة العقوبات الأمريكية المفروضة عليها، كما ظهر جليا مع توقيع الاتفاق الاستراتيجي مع الصين في هذا التوقيت.
إذا فاز ترامب بولاية ثانية، من المرجح أن نشهد ارتفاعا في حدّة الصراع مع الصين ومواصلة العزف على وتر مستقبل حلف الناتو والعمل على ترسيم جديد للعلاقات بين ضفتي الأطلسي الأمريكية والأوروبية، وتعزيز العلاقات مع بريطانيا وتايوان واليابان ودول الجوار الصيني ردا على توسع بكين. ويتوقع أيضا استمرار التراجع عن سياسة العولمة والتمسك بشعار أمريكا أولا، من دون الدخول بصوابية هذا الشعار من عدمه والمعاني التي تُحملها هذه الإدارة له.
بالنسبة إلى بايدن، لا بدّ من الإشارة أولا إلى أنه ليس نسخة منقحة من باراك أوباما بداعي اختلاف الظروف والتباين في الشخصية، بل هو من رعيل جون سكوكروفت وجيمس بيكر وجورج بوش الأب، أي يمثل هذه الشريحة من الأمريكيين الوسطيين، الذين يجسدون ما يسمى في السياسة الأمريكية الـMain Stream سواء بين سياسيي الحزب الجمهوري أو الحزب الديمقراطي. ومن ثم، إذا فاز يصعب اعتبار وصوله إلى الرئاسة بمنزلة «استمرارية» لولاية أوباما، ذاك الرئيس الأيديولوجي والعقائدي الذي يملك قناعات وأحكاما مسبقة حول الشرق الأوسط، لا سيما لجهة ربطه الإرهاب بالتشدد السني وتغاضيه عن الإرهاب الذي تمارسه الأصوليات المتشددة الشيعية، ما جعل حينها التوصل إلى الاتفاق النووي ممكنا. وعليه، يمكن القول إن وصول بايدن إلى البيت الأبيض قد يشكّل عودة إلى الدبلوماسية الوسطية، وتوطيد العلاقات مع الحلفاء الأوروبيين واتخاذ موقف أكثر واقعية تجاه الحلف الأطلسي، وبدء مرحلة أكثر وضوحا في العلاقات الأمريكية الروسية.
على صعيد الشرق الأوسط، القاسم المشترك بين المرشحين هو علاقاتهما الوطيدة مع إسرائيل، مع تفصيل مغاير هو أن ترامب يرتاح أكثر مع شخصية مثل بنيامين نتنياهو وسياساته، فيما يرتاح بايدن مع شخصية مثل بيني غانتس.
بالنسبة إلى تداعيات نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية على الشرق الأوسط، يبدو أن المنطقة لن تشهد تغييرا في حدود دولها بقدر ما ستشهد تغييرات داخلها. ويبدو جليا أيضا أن الدور الإيراني مرشح للاستمرار في التوسع من خلال الحروب بالوكالة، سواء في اليمن أو في سوريا والعراق ولبنان، بما قد يدفع تلك الدول إلى الدخول نهائيا نادي الدول الفاشلة. ومع هذا، يمكن القول إنه في حال فوز بايدن، قد يشهد الملف الإيراني تغييرات تستمر معها العقوبات، ولكن تتراجع إمكانية العمل العسكري والتركيز على الدبلوماسية بفضل عودة الحرارة إلى العلاقات مع الأوروبيين والحلفاء.
وسواء فاز ترامب أو بايدن، من المتوقع أن يستمر مسلسل الاختراق الميداني للكيانات العربية، أما النزاع العربي الإسرائيلي، فلا تفاؤل بقيام دولة فلسطينية، إنما قد نشهد تراجعا على مستوى تنفيذ صفقة القرن، ونشهد نوعا من احتواء لها على ضوء محاولات باتجاه تسويات إقليمية أكبر.
في المحصلة، إذا كانت الولايات المتحدة سبب المشكلات في المنطقة كما يرى البعض، فإنها أيضا مفتاح الحلول. المشكلة أن سياستها الخارجية تواجه تحديات تتجاوز اليوم قضايا الشرق الأوسط؛ كالمناخ وانتشار أسلحة الدمار الشامل وتأثيرات تنامي الثورة التكنولوجية وتداخلها مع قضايا كثيرة.
إنما أيضا قدرات أمريكا هائلة وتسمح لها بالمساعدة في معالجة قضايانا، إنما يتطلب ذلك أولا سياسة أمريكية داخلية صحيّة وصحيحة، تعالج الانقسام السياسي الحاد والتوترات العرقية والمشكلات الاقتصادية، وسياسة خارجية قادرة على إدارة التنافس مع الصين ومنعه من التحوّل صداما، وتعيد توطيد العلاقات مع الحلفاء وتكتشف حلفاء وشركاء جددا. سياسة واضحة تعي أنه لا سياسة الجزرة التي اعتمدها أوباما ولا سياسة العصا التي اعتمدها ترامب قد نجحتا. المطلوب وتحديدا لقضايا الشرق الأوسط، هو سياسة تعتمد دبلوماسية جديدة خلاقة تستخدم الجزرة والعصا، على أن تكون ثابتة ووفية لحلفائها الذين تتشارك معهم إنجازات ومصالح عديدة.