تلك القسمات في وجهه تروي خطوط سير المعارك؛ تحمل وجع التهجير وآلام النكبة، ودموع الأمهات وتضحيات الآباء، يحمل بها المسن إسماعيل أحمد الذي طرق باب الـ90 عامًا، آمال العودة إلى قريته "بربرة"، فلا يؤمن إلا بحتمية اللقاء الذي ارتقبه عبر سنوات طويلة، تبرق عينيه بـ"الأمل".
في صالة منزله بمخيم خان يونس جنوب قطاع غزة، وما إن تدخل صدر البيت حتى تقابلك لوحة لقرية "بربرة" بكل تفاصيلها، وعدد سكانها ومساحتها، لكننا كنا نبحث عمَّا في داخل جعبة ذاكرة المسن إسماعيل، للوهلة الأولى تعتقد أن شخصًا بهذا العمر قد نسي تفاصيل عاصرها وهو بعمر 18 عامًا، وقد مرت أحداث أخرى في حياته.
الساعة الثانية ظهرا؛ يتكئ على عكازه الأسود، يرتدي عباءة رمادية، تغطي هامته قبعة بيضاء، ترسم تعرجات وتجاعيد وجهه حكاية عمرها 72 عامًا؛ عاش قصة عائلة وبلدة وشعب مهجر قسرًا، بلغ اللاجئ إسماعيل 90 عاما، وما زال الحنين إلى "بربرة" يأسر قلبه، مرت تلك السنوات وما زال يتشبث بعادات الأجداد على أمل "عودة" قريبة يكحل بها عينه بعد الفراق.
بخطوات بطيئة اقترب وجلس تحت صورة قريته المعلقة على الحائط، على الطاولة يضع أمامه مفتاح منزله الذي ورثه عن والديه وبعض الأواني التراثية، وبجانبه أوراق لملكية الأرض، تجلس في جو تراثي.
حياة جميلة
بعد صمت وتنهيدة جمع فيها كل شوقه لقريته يخرج الصوت من شفتيه الراجفتين نتيجة التقدم في العمر، يقول لصحيفة "فلسطين": "كنا نعيش حياة جميلة، قبل النكبة اشتهرت بربرة بزراعة العنب وبالفلاحة، حتى أن العنب كان يحظى بانطباع جيد لدى دول العالم".
بعد أن ألقى ابتسامة على صورة القرية المعلقة فوقه، هو في الحقيقة ألقى السلام عليها متأملًا ملامحها، صمت وفي عيونه حكاية أخرى يعتصرها الألم، والوجع، وكل شيء يحصل مع الإنسان بعد فراق شيء عزيز، ثم تابع: "كنت أبلغ من العمر 18 عامًا، لكني أكملت تعليمي الابتدائي حتى الصف الرابع، وكانت مدرسة القرية في وسطها وتقع بمنطقة مرتفعة على الطريق المحاذي لها والمُعبَّد، وكانت تمر منه عصابات الاحتلال وقبلهم الإنجليز (قوات الاحتلال البريطاني)".
"ربما كانت مساحة المدرسة عشرة دونمات".. استذكرها بعد أن أشار لمكانها على الخريطة.
أجبرت الظروف إسماعيل على ترك الدراسة، والذهاب لمساعدة والده في رعي الأغنام، ومن ثم انتقل للزراعة والفلاحة، ابتسم صوته هنا، بلهجة عامية: "كنا زارعين جميع أنواع الفواكه، وأكترها العنب وكانت البكسة تساوي ليرة ذهب أو جنيه فلسطيني".
رسمت التجاعيد طريقها في يديه، التي كانت تهتز وهو يشير نحو الخريطة، قائلا: "في بربرة كانت آبار مياه، وكان يأتي النحل إليها".
على الطريق المحاذي للقرية، كان شباب "بربرة" يقاومون وجود قوات الاحتلال البريطانية بطرق مختلفة، ومنها هذه الطريقة: "حينما كانوا يأتون إلينا عبر دراجاتهم النارية، كنا نربط حبلا غير ظاهر بين جذعي شجرة على جانبي الطريق وحينما يمر يصطدم رأسه بها فيسقط ونأخذ سلاحه".
يتنقل في ذاكرته لمحطة أخرى، يطلب من شقيقه وابنه تذكيره بالمعلومات إن داهم النسيان ذاكرته، وحرف الأحداث عن مسارها، يردف إسماعيل الذي تبدو حالته الصحية جيدة للحديث: "خرج الإنجليز من فلسطين أو خرج معظمهم، وجاءت العصابات الصهيونية وبدؤوا ينشئون مستوطنات".
لمحة تاريخية
ولمن لا يعرف بربرة.. هي أرض متعرجة بالقرب من الهضاب وكان زحف الرمل يمثل مشكلة خطرة حتى الأربعينيات من القرن الماضي حين نجح السكان الأصليون الفلسطينيون في تثبيت الكثبان وذلك ببناء المنازل وزرع الأشجار في الأماكن الملائمة، وكانت تقع إلى الغرب مباشرة من الطريق العام الساحلي وخط سكة الحديد لذا فقد كانت ترتبط بالمراكز المدنية إلى الشمال والجنوب وكانت طرق فرعية تربطها بالقرى المجاورة.
كانت بربرة قرية في ناحية غزة وعدد سكانها 402 نسمة. بلغت مساحة رقعة القرية زهاء 130 دونمًا.
وفي أواخر القرن التاسع عشر كانت القرية مستطيلة الشكل تحيط بها حدائق عدة وبركتان أما الرمال الزاحفة من الشاطئ فكان يصدها سياج من نبات الصبار في الحدائق وفي الشرق كانت توجد بساتين من شجر الزيتون وكانت منازل بربرة المبنية بالطوب مفصولة بعضها عن بعض بأزقة رملية.
وكان لسكانها مسجد قديم وسط القرية بالإضافة إلى عدد من الدكاكين ومدرسة ابتدائية أسست في سنة 1921 كانت تضم 252 تلميذا في سنة 1947.
مواضع قتال
في القرية كان المقاومون يحفرون مواقع للقتال للدفاع عن القرية إذا ما تعرضت لهجوم من العصابات الصهيونية، لا تفر تلك التفاصيل من حديثه: "كان المقاومون يتموضعون في حديقة المدرسة وهي منطقة مرتفعة، ولما كانت تمر العربات والدبابات الصهيونية من أمام الجسر المحيط ببلدة بربرة، يفجر المقاومون الألغام ويتم تعطيب الدبابة أو البلدوزر".
"إن حدثت زيادة في الاشتباكات فإن أهل "المجدل" كانوا يهرعون للدفاع عن "بربرة" والتصدي للعصابات الصهيونية"؛ يتابع حديثه، منبها إلى أن قائدا إنجليزيا هدد أهالي "بربرة": "اذا ما مرقتوا اليهود حنضرب البلد بالمدفعية".
لكن تفاصيل الخسائر في صفوف العصابات الصهيونية كانت "كبيرة"، المسن إسماعيل يحفظها جيدًا: "في الاشتباكات تلك غنمنا ثلاث مصفحات وثلاثة بلدوزرات (جرافة كبيرة) وكنا نرسلهم إلى المجدل لإصلاحهم، فلم يكن هناك ورشة حدادة في "بربرة".
كان ثمن السلاح غاليًا جدًّا حيث وصل سعر البندقية نحو 100 جنيه، أي ما يعادل ثمن 10 دونمات من الأرض، وكان المقاومون أمام خيارات صعبة إلا أنهم تصدوا ببسالة، وفق قوله.
يوم مرير
يوم "النكبة" 15 مايو/ أيار 1948م، الطيران الحربي بدأ يضرب أطراف "بربرة"، والطرق المعبدة بكميات كبيرة من القنابل والصواريخ، بصوت يقطر بالحزن وملامح غرقت في تفاصيل اليوم الدامي وكأن أمامك لوحة فنية تنقلك إلى قلب المعركة، فيقول: "حاول أهالي القرى بإمكاناتهم البسيطة مقاومة العصابات الصهيونية، لكن عدد أهالي القرى والفدائيين في كل البلدات ربما لا يزيد على 15 ألف شخص، في حين كان عدد العصابات الصهيونية يبلغ نحو 65 ألفا، فضلا عن دعم دول الغرب لهم وإمدادهم بالمدرعات والآليات".
أمام هجوم العصابات الصهيونية الوحشي، واستهدافهم للبشر والحجر والشجر، تهجر الفلسطينيين قسرًا، يقول: "أخذنا بعض الأغراض التي تستطيع الدواب حملها، ولم نستطع المغادرة بالعربات لأن عجلاتها كانت من الحديد ولا تعبر الرمال، وظل الطيران يضرب جميع البلدات".
حطت رحال أقدام والدي إسماعيل بمدينة خان يونس، وما إن وضعوا أغراضهم حتى بدأت زخات المطر بالتساقط، المشهد لا يفر من حديثه: "خرج لنا أحد الرجال فأذن لنا بدخول المنزل، وثم أحضرت لنا وكالة غوث وتشغيل اللاجئين بعد ذلك خياما وبدأنا بعد ذلك ببناء بيوت".
أتدري؟".. يقول: "كنا دائما بعد "النكبة" نضع آذاننا على المذياع ونتحسس أي خبر عن العودة، كنا نتأمل اقترابها وما زلنا كذلك".
هل زرت بربرة؟.. "حينما عملت في الأراضي المحتلة سنة 1948، كنت أذهب لأرى أنقاضها وأتحسر على كل شيء جميل سرق منها، وأرثي حالها، كنت آخذ عائلتي وأولادي كل أسبوع وأعرفهم على بيتنا ومساحة أرضنا وكل شيء عنها".
يمسك المفتاح بيده ويعاهد "بربرة": "لدي أمل بالعودة والرجوع إليها حتى حينما أموت، لأن روحي ستبقي تحلق فيها، وهذا الحب ورثته لأصغر طفل في أبنائي".
لم يبق من القرية سوى الجدران المتداعية وركام المنازل المغطى بالشواك والعوسج وتنمو في الموقع أيضا أشجار الكينا والجميز الكبيرة فضلا عن نبات الصبار ولا يزال بعض أزقتها القديمة واضح المعالم.
وتستخدم رقعة من موقعها مكبا للنفايات وللسيارات المحطمة، أما الأراضي المجاورة فيزرعها المزارعون الإسرائيليون.