لطالما حفلت الأساطير التاريخية بأحداث وتفاصيل وشخصيات مليئة بالعبر والحكم، التي حافظت عليها الأجيال وتناقلتها، لما تحتويه من دروس يستفاد منها في عالمنا المعاصر. وحملت هذه الشخصيات والأحداث الأسطورية على الدوام معانيَ ورمزيات، تصلح لأن تكون مقياسًا لأحداث حصلت وتحصل في أيامنا، ومن أشهر الرمزيات الأسطورية التي تجسدت في هذه الروايات التاريخية، "الحصان الخشبي" الذي غير مجرى معركة، وهي واحدة من أبرز المعارك في الروايات الأسطورية، إذ يحكى أن الخديعة الإغريقية التي ابتكرها القائد العسكري "إيبيوس"، التي نُفذت في ثلاثة أيام، أدت إلى سقوط طروادة المحاصرة، التي صمدت 10 أعوام، أمام أصعب حصار عسكري فرض على المدينة، وبعد أن يئس الجيش الإغريقي، من محاولاته المتكررة لهزيمة الطرواديين واقتحام قلعتهم، ولدت على أرض المعركة نظرية "الحرب خدعة"، ليكون نتاجها "حصانًا خشبيًا" عملاقًا أجوف، تسللت إلى أحشائه مجموعة كبيرة من المحاربين الإغريقيين، بقيادة القائد العسكري "أوديسيوس"، الذي قُدِّم للأمير الطروادي "هيكتور"، على أنه "عرض سلام"، ينهي الحرب الدائرة فصولا منذ أعوام متعددة، فما كان من الطمأنينة ونشوة الفوز "الطروادية"، أن تحولت لهزيمة نكراء، وخيبة أمل بعد أن فتحت بوابات المدينة، أمام "حصان السلام" لتخرج الهزيمة من رحمه، وتعلن نهاية الحفل الأخير!
لم تكن النكبة الفلسطينية الكبرى، التي ارتكبتها العصابات الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني وأرضه عام 1948، نهاية المشروع الصهيوني، الذي رسمت تفاصيله في المؤتمر الصهيوني الأول، في مدينة "بازل" السويسرية في "29\8\1897"، بل شكلت نقطة البداية لمسار "التراجيديا" لشعب أضحى بلا وطن، يعيش حالة "تيه" في المنافي، مشردًا في جميع أصقاع الأرض.
فقد راهنت الحركة الصهيونية على اندثار القضية الفلسطينية في بضع سنين، تعقب الإعلان الصهيوني عن إنشاء دولة الاحتلال الإسرائيلي على الأرض الفلسطينية، مستندين إلى عاملين أساسيين، هما: "عامل الزمن"، و"عامل الذوبان"، وعدم القدرة على المواجهة، ونتيجة مباشرة لهذه المأساة الفلسطينية الكبيرة والمستمرة، هجرت أعداد كبيرة من أبناء الشعب الفلسطيني إلى كل أصقاع الأرض، إلى بلدان الشتات والمهجر، وخاصة إلى القارتين الأوروبية والأمريكية، اللتين شهدتا حركة هجرة واسعة، وهي بمعظمها هجرة قسرية للأسباب، آنفة الذكر، فكان العديد من الموجات التي تفاوت عددها وحجمها، ولعب العامل السياسي والأمني الدور الأبرز فيها، وهذا ما كون على امتداد هذه القارات جاليات فلسطينية، أخذت بتطوير نواتها شيئا فشيئا. رغم أن هذه الهجرات الكبيرة كانت محط ارتياح لدى العدو الإسرائيلي، الذي كان يراهن على مقولة "الكبار يموتون والصغار ينسون"، وعامل أرق للحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، التي تخوفت على الدوام من عملية جراحية، تجريها طبيعة ومتطلبات الحياة في دول اللجوء، تؤدي إلى قطع الحبل السري، بين الجاليات الفلسطينية وقضيتها الأم (القضية الفلسطينية).
سارت الأمور عكس الارتياح والقلق، وتمكنت جالياتنا من إعادة وصل تاريخها وتراثها بقضيتها، منطلقة من عقيدة ثابتة، أن الانتماء الحقيقي لا تمنعه حدود ولا تحد منه المسافات الطويلة، فرسمت لنفسها مسارًا نضاليًّا على تماس مباشر مع النضال الفلسطيني لتكتمل بذلك صورة النضال الفلسطيني، في المركز، أرض الوطن بقسميه، وفي مناطق اللجوء والشتات والمهاجر. ورغم ذلك، فقد تميزت هذه الجاليات على امتداد جميع دول المهجر، وبرعت في جميع المجالات، التي أثبتت تفوقًا في كل الاختصاصات، وشكلت عامل إعمار وتطوير مساهم في بنية المجتمعات ومؤسساتها ومرافقها، مشكلة حصان "فلسطين الذهبي" العملاق والمملوء بالوطنية الفلسطينية، الذي حمل في داخله، محاربين كنعانيين، مشبعين بحضارة أرضهم وتاريخها، وثقافة شعبهم وتراثه، وهمومهم وطموحاتهم وآمالهم، في الحرية والاستقلال وتقرير المصير، حاملا في أحشائه الأصيلة معاناة متواصلة، وحلمًا في الخلاص من مسيرة الآلام "والتيه" التي أرادوها قدرًا محتمًا على رؤوس شعب بأكمله، على عكس "الحصان الخشبي" الأسطوري، فليس "بخديعة الحرب" ولا بهدف القتل أو الدمار، بل "بحب الحياة" "وإرادة البناء" "وتكريس القيم الإنسانية"، فقد شكل دخول هذا الحصان الذهبي، وعبوره أبواب القلاع، التي راهنت عليها الحركة الصهيونية عقودًا من الزمن مفاجأة كبيرة، بعد أن سقطت مقولة "الكبار يموتون والصغار ينسون"، تحت أقدام الأجيال الفلسطينية، التي رفعت أعلام فلسطين، وصدحت بالحقوق الوطنية الفلسطينية، بلغات مختلفة في معظم دول المهجر، وعلى امتداد القارات الخمس.
لقد لعبت الجاليات الفلسطينية على مدار سنيّ الصراع مع العدو الإسرائيلي، دورًا رياديًّا في فضح دجل السردية الصهيونية، وادعاءاتها الكاذبة، التي روجت لها على الدوام، وسائل الإعلام الإمبريالية المحكومة من الحركة الصهيونية، وفي نقل معاناة الشعب الفلسطيني، وحقيقة الممارسات الإجرامية، التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني وأرضه، وقد برز هذا الدور من خلال تصاعد حجم التأييد العالمي، للحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وتعاظم الحركات العالمية، المطالبة بوضع حد لمسلسل الإجرام المتواصل، بحق الشعب الفلسطيني، وهذا ما مثلته حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على "إسرائيل" ال”BDS”، التي كان للجاليات الفلسطينية الدور البارز في تطوير أدائها وبرامج نضالها، خصوصا على الساحة الأوروبية، بالإضافة إلى تأييد عددٍ واسعٍ من المثقفين والأكاديميين، والأدباء والفنانين والرياضيين، الذين تعاطفوا مع القضية الفلسطينية، وحقوق الشعب الفلسطيني.
تلعب الجاليات الفلسطينية دورًا رياديًّا غير مسبوق في استمرار مسيرة النضال المتواصلة، بعدها رأس حربة التصدي للمشروع الأمريكي الإسرائيلي التصفوي للقضية الفلسطينية في الخارج، وذلك من خلال الفعاليات والنشاطات الكبيرة التي أطلقتها الجاليات في معظم دول المهجر، وخصوصًا في القارة الأوروبية، التي شهدت معظم دولها كـ(ألمانيا، إيطاليا، السويد، النرويج، الدنمارك، إسبانيا، النمسا، فرنسا، بلجيكا، هولندا،...إلخ) في الأسابيع الماضية، نشاطًا استثنائيًّا غير مسبوق، في حجم التأييد والتضامن مع الشعب الفلسطيني، وكان للجاليات الفلسطينية البصمة الرئيسة في تحريك هذا الموج البشري الذي خرج في الساحات والشوارع والمراكز التجارية، رافعين الأعلام الفلسطينية، واليافطات المنددة بـ"صفقة القرن" ومشاريع الضم الصهيونية، وهاتفين "بالحرية لفلسطين"، والـ"عدالة للقضية الفلسطينية"، بالإضافة لمدن عديدة في كندا، كالمظاهرة الكبيرة التي شهدها وسط مدينة "تورونتو" أكبر المدن الكندية، وفي معظم الولايات الأمريكية، ودول أمريكا الجنوبية والكاريبي، والتي قوبلت في الكثير من الأحيان، بمحاولات تخريب من قبل المنظمات الصهيونية وداعميهم، إلا أن الثبات والعزيمة اللذين يتمتع بهما أبناء الجاليات الفلسطينية، المستندة للحق والعدالة، والمدعومة بتأييد وتضامن كبير من المجتمعات المحلية، أدت إلى إفشال جميع هذه المحاولات.
كما تعددت المبادرات التي أطلقتها المؤسسات والجمعيات والاتحادات الفلسطينية التابعة للجاليات الفلسطينية التي لعبت دورا مهما في تحشيد أوسع تأييد سياسي وديبلوماسي للحقوق الفلسطينية، من خلال حملات التضامن، وتوقيع العرائض الرافضة لمشروع الضم الصهيوني، التي وجهت إلى البرلمانات والحكومات والسفارات الأمريكية، إذ وقع أكثر من "300" مؤسسة ورؤساء سابقين وقادة وشخصيات سياسية وثقافية وأكاديمية وناشطين ومتضامنين من أمريكا اللاتينية، على عريضة تضامنية مع الشعب الفلسطيني، ترفض "صفقة القرن" ومشروع الضم الصهيوني، والتي سُلمَت إلى منظمة الدول الأمريكية، وحقوق الإنسان ومجموعة دول "الكاريبي" والدول اللاتينية، وإلى برلمانات معظم هذه الدول، كما دعا مجلس الشيوخ التشيلي الحكومة التشيلية إلى اتخاذ قرار بمقاطعة البضائع "الإسرائيلية"، الصادرة من المستوطنات الصهيونية، وهنا برز دور ثالث أكبر جالية فلسطينية في العالم، التي سخّرت جميع إمكاناتها خدمة للقضية الفلسطينية، ولنا بفريق "بالستينو" التشيلي- الفلسطيني، نموذجًا رائدًا في حمل اسم فلسطين والراية الفلسطينية في جميع أصقاع الأرض، كما هي الحال في القارة الأوروبية، التي شهدت حملات متعددة لتوزيع "بوست-كارد" وجمع التواقيع، وإرسال عرائض الاحتجاج، إلى البرلمانات والحكومات الأوروبية، التي جهدت من أجلها الجاليات الفلسطينية، بالتعاون مع جميع المتضامنين مع القضية الفلسطينية، وهذا ما زاد من حجم التأييد السياسي والدبلوماسي غير المسبوق للقضية الفلسطينية، الذي برز بمواقف (الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وحكومات معظم الدول الأوروبية) التي رفضت رفضًا قاطعًا مشروع الضم الصهيوني، وأكدت التزامها بتطبيق قرارات الشرعية الدولية.
لقد كسب هذا الحصان الذهبي المصقول بالوطنية الفلسطينية، رهان السباق مع الزمن ورهان شعبه العظيم، واستطاع بعزيمته وأصالته أن يُفشل جميع الرهانات، عن الذوبان في تفاصيل "الاندماج السلبي"، الذي ينسيه قضيته الوطنية، الذي يفصله عن هموم شعبه ومشروعه الوطني، فالجاليات الفلسطينية اليوم، هي الرئة الفلسطينية، التي يتنفس من خلالها المرابطون، في شوارع القدس وبيوتها العتيقة، والمتجذرون في أراضيهم المحتلة عام 1948، والصامدون بوجه مشاريع الاستيطان وسرقة الأرض في الضفة الفلسطينية، والصابرون على همجية الحصار الجائر في غزة الصمود والعزة، والمتمسكون بخيط أمل العودة في قلاع اللجوء، وأبطال العودة الحتمية، هم القلب النابض للجسد الفلسطيني، الذي أنهكته المؤامرات، الذي سيبقى يخفق بنبضات فلسطينية، إلى حين تحقيق حلم جميع الفلسطينيين، بانتزاع حقهم في تقرير مصيرهم، على أرضهم وفي دولتهم المستقلة كاملة السيادة، بعاصمتها القدس، وعودة اللاجئين الفلسطينيين كما حددتها قرارات الشرعية الدولية.