فلسطين أون لاين

العزلة أنت من تحددها.. مُرضية أم مَرضِية؟

...
غزة- مريم الشوبكي

"قلل ناس يرتاح راسك" بعضٌ يتخذ هذا المثل مبدأ يسير عليه في حياته، وبعضٌ آخر يؤمن بالمثل القائل: "الجنة ما بتنداس بدون ناس"، للدلالة على أن الاختلاط بالآخرين يعطي الحياة جمالًا، ويسندونه في أفراحه وأتراحه.

العزلة الاجتماعية ليست كلها مخاطر بل لها فوائد على حياة الفرد وطريقة تفكيره وتعامله مع المواقف والأشخاص، تكون مرُضية إذا اتخذ العزلة بعض الوقت، وعلى النقيض يمكن أن تكون مرَضِية إذا زادت عن حدها وأصبحت أسلوبًا دائمًا في حياة الشخص، حينها يغرق في ظنونه ولومه لذاته، ويمكن أن تصل به إلى مرحلة الاكتئاب.

تباينت الآراء بين مؤيد بشدة للعزلة الاجتماعية، وآخر يفضل الموازنة بينها وبين الاختلاط والتواصل مع الآخرين.

وحده فقط

ياسر داود من الأشخاص الذين لا يحبون مخالطة الناس وتكوين صداقات كثيرة، يقول: "بطبعي أميل إلى الهدوء ولست كتابًا مفتوحًا، لذا أنتقي الأشخاص الذين أريد الخروج معهم بعناية لكي أتبادل معه الحديث".

ويتابع داود (35 عامًا): "أحب إذا خرجت مع هذا الشخص الذي أرتاح له أن يخرج معي وحده فقط، وعندما أتصل بصديق لي أرتاح له ويخبرني أنه مع شخص أتردد في الذهاب إليه، وأحيانًا كثيرة أغلق جوالي ولا أريد أي أحد أن يتواصل معي".

خذلت واعتزلت

أما يحيى بارود من مخيم جباليا شمال قطاع غزة فيقول: "في هذا الزمن الصعب ليس للإنسان العاقل إلا العزلة التامة عن الناس، فالاحتكاك المستمر بالناس يولد الفتن والمشاكل في المجتمع وعلى المستوى الفردي أيضًا".

ويضيف بارود (45 عامًا) لصحيفة "فلسطين": "أطلب السلامة باعتزال الناس والقيل والقال والتظاهر بأنني أصم لا أسمع ولا أتكلم، فلا أسمع كلامًا سيئًا، ولا يأخذ أحد مني كلامًا يؤوله على هواه، ولا ينقل لي كلامًا لا أفضل سماعه ويشعرني بالضغينة والحقد، خذلني كثيرون على مدار حياتي ولم أتلق التقدير بل نكران الجميل، والبغضاء والحقد منهم".

"بطبعي اجتماعية"

في حين استشهدت ياسمين السوسي بحديث الرسول (صلى الله عليه وسلم): "المؤمِنُ الذي يُخالِطُ الناسِ ويَصبِرُ على أذاهُمْ، أفضلُ من المؤمِنِ الَّذي لا يُخالِطُ النَّاسَ ولا يَصبرُ على أذاهُمْ"، في الدلالة على أن في مخالطة الناس فوائد تعود على حياة الشخص من التجارب الصعبة التي يمر بها، والدروس والعبر التي يستخلصها منها، وأجر صبره على الأذى.

في الحياة تقابل أشخاصًا سيئين وآخرين جيدين، وإن كانوا قلة، هذا الأمر لم يمنع السوسي من الاستمرار في نسج علاقات جديدة مع جاراتها، لأنها اجتماعية بطبعها وتحب التواصل مع الآخرين وتبادل الزيارات.

وتقول السوسي (28 عامًا، من مدينة غزة) لصحيفة "فلسطين": "خذلني من لم أتوقع أن يخذلوني يومًا، لكنني لم أعتزل الناس، بل أصبحت أكون علاقات جديدة مبنية على الحذر في أغلب الأوقات، فأنا أملّ من الوحدة ولا أفضلها على الإطلاق".

مرَضية ومُرضية

في السياق تقول الاختصاصية النفسية إكرام السعايدة: "جُبل الإنسان على الاجتماعية في العلاقات، ومع تعدد مصادر الضغوط في الظروف الراهنة والأوقات الحالية، وازدياد الأعباء الملقاة على كاهل الفرد، أصبحت بعض العلاقات الاجتماعية مرهقة، ما دفع بعضًا إلى اتخاذ قرار العزلة، ولكي نكون منصفين يجب التفريق جيدًا بين العزلة المَرضية، والعزلة المُرضية".

وتضيف السعايدة لصحيفة "فلسطين": "السلوك التجنبي والعزلة أحد مظاهر الاضطرابات النفسية، ومؤشر خطير على اعتلال الصحة النفسية للأفراد، أما حينما يعتزل الإنسان كل ما يؤذيه ليحقق له الرفاهية النفسية فهي عزلة مُرضية".

وتبين أن فوائد العزلة للإنسان الذي يعي جيدًا العزلة؛ فهو يجني فوائد عظيمة على الصعيد الذهني، أو النفسي، أو الاجتماعي، أو الروحي أو الروحاني، إذ تعتمد أحدث التقنيات للياقة الذهنية على التمارين التي تقوم على الاسترخاء والعزلة، والبعد عن الضجيج، فهي فرصة ذهبية ليتشافى الإنسان من مصادر الضوضاء التي تكثر في وقتنا الحالي.

وتوضح السعايدة أن العزلة ترياق لإدارة الضغوط النفسية، وتجربة غنية لتجديد الأفكار، واستبصار المشكلات، ودراسة الأمور بموضوعية بعيدًا عن ردات الفعل الأولية والنظرة الضيقة للأفق، وتساعد على فهم الآخرين فهمًا أفضل.

وتشير إلى أنها تزيد من رصيد العلاقات الاجتماعية، قد يكون الأمر للوهلة الأولى متناقضًا، ولكن حينما تبحث في خفاياها تجد أن المبالغة في اللقاءات ستزيد فرصة الاحتكاك وبذلك ستزيد من المشاكل، ولكن في العزلة تبقى محتفظًا بمسافة بينك وبين الآخرين فتُبقي حبل الود معهم.

وعن البعد الروحاني للعزلة، تتحدث السعايدة: "الناظر إلى سيرة الأنبياء والمرسلين يرى أن كثيرًا منهم قبل الانطلاق بدعوته اعتزل الآخرين، وهذا يوضح لنا الفوائد الجمة من العزلة، فهي تمنحنا التأمل والتدبر، وتزيدنا رفعة وسموًّا في الجوانب الروحانية، وتجعلنا أبعد ما يكون عن الضغائن وأمراض النفس".

قد يبالغ بعضٌ في العزلة، فما انعكاساتها الخطيرة على الشخص؟، تجيب: "تهتز ثقته بنفسه، ويفقد الثقة بالآخرين، ويقع فريسة للظنون السيئة، وقد يصدر أحكامًا مسبقة عن الآخرين، توقعه في خلافات معهم، ويلوم ذاته بكثرة".

وتكمل السعايدة: "قد يتطور الحال إلى بعض الاضطرابات النفسية كالاكتئاب، والحزن الشديد، وضعف في العلاقات الاجتماعية ومهارات التواصل مع الآخرين، وبناء حواجز بينه وبين الآخرين، وعدم القدرة على الإفصاح عن مشاعره وأفكاره ومشاكله وهمومه، وافتقاد أشخاص يسدون له النصيحة وقت حاجته لها".

وتلفت إلى أن في العزلة يصبح الشخص غائبًا عن كثير من المستجدات على صعيد الحياة الاجتماعية، والأكاديمية، والمهنية.

حتى لا تتحول العزلة إلى حالة مَرضِية، تذكرك السعايدة بأنك أنت الخبير بأوقات احتياجك للعزلة، بمعنى نظم حياتك واجعلها مزيجًا بين المرح والعلاقات الاجتماعية الدافئة، والعزلة وأنت واثق تمامًا بأنك اتخذت القرار الصحيح.

وتدعو إلى التنويع بين علاقات اجتماعية وعزلة وجوانب تطوير الذات، لكي تبقى كالمنحنى التصاعدي، قائلة: "وازن بين قراراتك، وقرب من حياتك الأشخاص ذوي النفسيات السوية الذين يتفهمون قربك منهم وعزلتك عنهم، بعيدًا عن الأشخاص السطحيين في العلاقات".