قبل يومين تنسّم هواء الحريّة الدكتور أمجد قبها بعد قضاء ثماني عشرة سنة في سجون الاحتلال، ونحن الفلسطينيين إذ تتكرّر على مسامعنا هذه الأرقام الصعبة أصبحنا نمرّ عليها مرور الكرام، في حين الأمر رحلة مأساوية من العذاب الأليم للأسير وأهله يطول تعداد جوانب القهر والألم فيها، يسرقون بدم بارد مساحة مهمة من مساحة هذا الإنسان الذي قرّر أن ينتصر للحق والعدالة بخصوص وطنه وأن يكون صادقًا منتميًا لقضيته.
ثمانية عشر عامًا بدأت الرحلة بخطفه من حياته التي استعد لها طويلًا ليكون خادمًا أمينًا في القطاع الصحي لبلده إذ درس الطب وتأهل لإنقاذ أرواح الناس والتخفيف من آلامهم، على حين غرّة قطعوا عليه طموحه وآماله وقلبوا مسار حياته رأسًا على عقب، فبدل أن يكون طبيبًا في مستشفى أصبح معتقلًا في سجن قاحل بائس ليس فيه إلا أن يكون عنصرًا في مدافن الأحياء، ومن المعلوم أن أسرانا لا يستسلمون لهذه الإرادة الصهيونية الحاقدة، بل يستلّون ما ينفعهم ويصقل حياتهم ويغيظ عدوّهم، يحولون السجون إلى معاقل للحرية وصناعة الرجال، حيث الدكتور أمجد وجد مكانه وفعّل قدراته ثمانية عشر عامًا ليرد كيد سجانه في نحره ويحقّق من الإنجازات على هذه الصعد ما يضيق المكان لحصره.
ثمانية عشر عامًا بدأت بأن ألقوه في زنازينهم ليكيلوا له كلّ صنوف العذاب والتحقير والإهانة، أرادوا له هزيمة الروح التي تستجيب للشعور بالضعف والاستكانة والمهانة، ولكنها النفس الحرّة الأبيّة ذات السيادة العالية والروح الفذّة المقاومة، أبت أن تعطيهم الدنيّة، ولو في لحظة عابرة، واستمسكت بالعزة والأنفة، وخرجت من زنازينهم بعنفوان جديد وإرادة لا تلين، بل تصرّ على مواصلة الطريق والثبات على الحق الراسخ المتين، فشلوا في هزيمة الروح ونجح هو في رفع سقف هذه الروح المنتصرة العالية ليكون مصدر إشعاع وإلهام وتنوير، نجح مع إخوانه في تحويل السجن إلى كليّة تعبويّة سياسية تربوية، فيها كل فنون المواجهة، فما تعجز عنه أكاديميات الخارج هم يقدمونه في أبهى صوره بمنهجية واعية متكاملة بحيث يحصل خريج هذه الكلية على بناء ذات ثورية واعية.
ثمانية عشر عامًا مرّت على خط النار والمواجهة، في الخندق المتقدم مع أشرس عدوّ عرفته البشرية، فالخبرات المتراكمة في هذه الساحات الشرسة القاسية تنتج تحديات عالية، لا يتجاوزها إلا الرجال الرجال من ذوي الإرادات القوية والعزائم النبيلة والهمم الفريدة الباسقة، يواجهون على مدار الساعة كلّ أساليب القهر والتوحّش والسادية العبثية التي لا تبحث إلا عن تذويب هذا الإنسان ومحق محتواه الوطني والجهادي والنضالي، فمن يثبت ويصبر وينتصر فإنهم الرجال الذين لا يشق لهم غبار ولا تقف أمام عزيمتهم جدران السجن العاتية، ولا مكر غير مسبوق لسجان مارق مجرم لا يعرف إلا لغة القهر والموت البطيء بسادية مفرطة لا حدود لها، إنهم المجد والأمجد الذي ثبت وقاتل وحقّق ذاته فرديًّا وجمعيًّا كما يريد وانتصر وخرج مرفوع الرأس بهامته الفارعة العالية.
ثمانية عشر عامًا يعلن في ختامها الدكتور انتصاره على سجانه، يعلن أنه قد خرج وخرّج آلافًا مؤلفة من الأحرار، يعلن أنه لم يهن ولم يحزن وبقي هو الأعلى وبقيت رايته خفاقة في سماء فلسطين، ثمانية عشر عامًا هي الأغلى والأثقل وزنا عند الله، هي الأبقى في تاريخ الصراع، وساعة زوال هذا المحتلّ الغاصب سندرك أن هذه السنوات في السجون هي التي حافظت على عدالة هذه القضية، وهي التي ضخّت الروح في شرايين هذا التاريخ الناصع ليصنع مستقبلًا حرًّا لشعب كان لا بدّ له من الخلاص من أعتى أنواع الاحتلال ونازية البشر.
هي نار على المحتل، ونور لا ينضب في مسيرة الحرية وانتصار الحق والعدالة وخيرية البشر.