فلسطين أون لاين

المطفّفون والمتقاعدون؟!

قد وصلنا من أخبار تلك البلاد في ذاك الزمان، زمان عجب العجاب أنّ الناس قد ابتدعوا نظامًا لرعاية موظفي البلاد يقتضي بخصم مقتطعات من رواتبهم تصل إلى ستة عشر بالمائة، وتؤخذ هذه إلى صندوق خاصّ وضعوا عليه هيئة إشراف وإدارة تُسمى هيئة شؤون التقاعد، ومن مهمة هذه الهيئة أن تحفظ هذه المدّخرات لسنوات الشيخوخة؛ لتضمن لهم حياة كريمة بعد أن تتقوّس عظامهم ويبلغوا من الكبر عِتيًّا ويصبحوا غير قادرين على العمل بعد أن أفنوا جلّ أعمارهم وزهرة شبابهم في أعمالهم ووظائفهم، ولهذه الهيئة أيضًا أن تستثمر هذه الأموال وتنمّيها لتضمن فوق العيش الكريم رفاهية محمودة إن نجحت في إدارة الاستثمار.

ودارت الأيام واجتاحت البلاد والعباد جائحة وبائية جعلت الحكومة والناس في ضائقة مالية، واكتشف المتقاعدون أنّ مدخراتهم لم تكن في صندوق هيئة التقاعد وإنما كانت في صندوق الحكومة العام، وقد جرت العادة على خلاف كل الحكومات ودول الجوار، أن تُصدّر وزارة المالية كلّ شهر شيكًا بالمبلغ الذي يفي المتقاعدين رواتبهم. ولمّا أفلس صندوق الحكومة ولم يكن لديه من السيولة والكاش (كما يزعمون) ما يفي بالتزاماته لهيئة شؤون التقاعد، نكص على عقبيه، فانقطعت السبل بهؤلاء المسنين، فلا حفظت أتعابهم ولا استثمرت، ووجدوا أنفسهم بين السماء والطارق قد طارت مدَّخراتهم ولم يجدوا قوتهم ولا قوت عيالهم، ولأنها لم تحظ بالاستثمار فقد كانت بالكاد تبقيهم على قيد الحياة إلى نهاية الشهر عندما تصرف، فكيف إذا توقّفت وانقطعت، وانضم المتقاعدون إلى قوافل المنقطعين الحائرين، ولم يعد كذلك تأمينهم الصحيّ التقاعديّ فيه دواء إلا البيبي إسبرين وما رخُص وخفّ ثمنه، في حين أن ما غلي وارتفع سعره فقد تبخّر وطار وشحّ من صيدليات صحة الحكومة والتأمينات. أحد المتقاعدين على سبيل المثال، أثمان الدواء له ولزوجته المسنة تتجاوز الألف شيقل شهريًّا؛ لأن دواءهم مفقود من صيدليات الصحة، في حين أن راتبه التقاعدي 1700 شيقل. الأمر الذي يدفعه أن يختار إما الغذاء وإما الدواء، ولكن ماذا لو كان الدواء بعد الأكل مثلا؟!

وقد علم المتقاعدون مما تأتيهم من أنباء حكومات بقية البشر في عالم غير عالم بلاد عجب العجاب، أن أولئك المتقاعدين لديهم من صندوق تقاعدهم ما يكفيهم لأمنهم المعيشي والصحّي ويكفي عيالهم، وزيادة على ذلك لهم من السياحة والترفيه ما لهم؛ لأنّ إدارة تلك الصناديق بأيدٍ أمينة وأناس يحسنون الاستثمار.

وحتى من أخبار بلاد قريبة من الناس والطينة ذاتهما، عرب أقحاح لدول فقيرة ولكن لا أحد يمسّ صندوق التقاعد، فلا يفتقر المتقاعدون إذا افتقر الناس ولا يضيرهم شيء مهما كانت أحوال البلاد، إنها الطبقة المسنّة التي إن لم تحظَ بحسن الرعاية وأقلّ الواجب والحماية، فلا رعى الله تلك البلد ولا بارك الله في أرزاقها.

وهنا تحضرنا هذه الآيات التي تطرق جدران كل الخزانات: "ويل للمطففين، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون، ليوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين"، هؤلاء المطففون كلّ مشاكلنا عندهم، عندما يكون الأمر له أو لعظام رقبته، عند المكيال يستوفي حقه على داير مليم، أما إذا كال لغيره يُخسر الميزان ويسحق الغلابى والمعتّرين وفقيري الحال والمال والجاه والسلطان.

للمتقاعدين من أموالهم ومدخراتهم راتب معلوم، "ولا جميلة لأحد عليهم"، بل هو مالهم وحقّهم فلا يجوز لأحد أن يتصرّف به إلا بعلمهم وأخذ إذنهم، وهذا لم يحصل أبدًا.