منذ أن ظهرت النوايا الإسرائيلية العدوانية لضم الأراضي الفلسطينية والاستيلاء عليها نراقب من كثب ردود الفعل من قيادة السلطة، التي بدت متخبطة ومرتبكة في اتخاذ مواقف تناسب حجم الخطر؛ ارتباكًا واضحًا في التصريحات والإجراءات، حتى في الحراك الدبلوماسي، كما أن سيل التهديدات التي أطلقت كانت كالفقاعات لا يرى لها أثر.
فما الذي تريده السلطة؟ وكيف يمكن فهم رؤيتها للمواجهة؟ وفي أي إطار تأتي هذه التهديدات من المستوى الرسمي؟ وهل بالفعل هي قادرة على إدارة مواجهة متكاملة أمام هذه المخطط التصفوي الذي يسعى لأن يقتلع الفلسطيني من أرضه ويقضي على ما تبقى من حلم في إقامة دولة فلسطينية؟! تساؤلات كثيرة نطرحها هنا وغيرها مما يدور في ذهن الفلسطينيين الذين أصابتهم الحيرة من مواقف السلطة في وضع حرج ومتدهور.
فالسلطة في وضع لا تحسد عليه؛ فقد انهار مشروعها السياسي، وتبخر حلم الدولة التي قاتلت شعبها من أجله، بعد أن أذاقته الويلات بالملاحقة، والاعتقال، والقمع، وكبت الحريات، وإخماد أي دعوات للمواجهة مع (إسرائيل) بذريعة أن السلام وحده هو الكفيل بنيل الحقوق، زاعمة أن مشروعها جاء لحماية الثورة وحفظ مقدرات شعبنا، وأن التزامها بالاتفاقيات والمعاهدات وضمانها للهدوء التام هو الكفيل باستعادة الأرض وإنهاء الاحتلال.
وقد تورطت في شيطنة النضال الفلسطيني المقاوم بعد العمل المسلح شيئًا شائنًا يدخل ضمن التطرف والإرهاب، لتدخل في حملات قاسية من الاستهداف لحركتي حماس والجهاد الإسلامي في قطاع غزة، والضفة الفلسطينية، لكن الظروف وتطورات الأحداث في غزة فرضا واقعًا أدى إلى تآكل تأثيرها في غزة ونقل ثقلها للضفة.
ومنذ ذلك الحين طال القطاع استهدافات ممنهجة، وعلى رأسها الحصار والإغلاق، ومنع السفر، وتجفيف خطوط الدعم، وشن الحروب المتكررة، والاغتيالات المركزة، وموجات من التحريض، إضافة إلى العقوبات، وقطع الرواتب، والتمييز على أساس جغرافي بين المواطن في غزة ونظيره بالضفة عاملًا أو موظفًا أو مريضًا ينتظر الخدمة، فقد تبادلت السلطة و(إسرائيل) أدوارًا في محاولة لإسقاط قطاع غزة.
فهي بكل بساطة مستمرة في سياساتها الاستسلامية تجاه (إسرائيل)، لاقتناعها بأن الشراكة مع الإسرائيليين تمثل شبكة أمان حقيقية لبقائها سلطة تجلس فوق الماء، تتدفق لها ولرجالاتها الامتيازات والمصالح، وتمنحها العيش الرغيد، وتعطيها فرص زائفة للمناورة أمام شعبنا، مع اقتناع السلطة بأن الانتفاضة وعودة العمل المسلح هما الخطر الحقيقي، وليس المشروع الإسرائيلي.
لذلك دخلت السلطة في موجة من الإجراءات التي طالت كل شيء لمنع أي تغيير حقيقي في الضفة من شأنه أن يؤدي إلى اندلاع مواجهة مع (إسرائيل)، في إطار الرد على مخطط الضم العدواني، وقد استغلت ظروف الجائحة لتفرض نظام الطوارئ وتنتهك تحت مظلته كل شيء بدعوى المحافظة على السلامة العامة وأمن الوطن، في الوقت الذي تجتاح فيه القوات الإسرائيلية البلدات والمدن لترتكب عشرات الجرائم دون أن تتعرض لها أجهزة السلطة بطلق ناري طائش.
وتحت ذريعة منع انتشار الوباء تغلق الضفة وتمنع الأنشطة المناوئة للاحتلال، في حين تتصاعد وتيرة التهديدات من قيادة السلطة وكأنها تستعد لفتح مواجهة مع (إسرائيل)، لكنها في الوقت ذاته تطمئن الإسرائيليين أنها ملتزمة بضمان الاستقرار في الضفة، وغير معنية باندلاع موجات من العنف، في إشارة للغضب الشعبي الذي تمنع خروجه إلى الشارع لتفادي أي مواجهة مع (إسرائيل)، ربما تتطور إلى عمليات مسلحة تخشاها السلطة ويمكن أن تهدد وجودها، وقد أدخلت شعبنا أخيرًا في حالة مبرمجة من الإلهاء بتأخيرها صرف رواتب الموظفين لإشغال الناس بظروفهم المعيشية، والتأثير المباشر على واقع الحياة في قطاع غزة، فالسلطة غير قادرة على إدارة معركة وطنية ضد الاحتلال، واكتفت حتى الآن بخوض حرب كلامية مع (إسرائيل)، ولو كانت جادة لالتقطت الدعوات الوطنية للمواجهة، وأطلقت العنان للجماهير للانتفاض في وجه الاحتلال، ورفعت قبضتها عن المقاومة.
هي تريد أن يشتعل قطاع غزة ويكون ذلك ذريعة لـ(إسرائيل) لشن حرب مدمرة تطحن القطاع وتؤدي إلى انهيار حكم حماس، لتكون الفرصة سانحة لها لاستعادة سيطرتها السياسية والأمنية في غزة، بعد أن ضاقت بها الأرض في الضفة بفعل السياسات الإسرائيلية، علها تقيم لها سيادة على أنقاض غزة تمكنها من استكمال بناء دولة فلسطينية على المقاس الأمريكي الإسرائيلي.