لم يقل محمود عباس للإسرائيليين: لا، حين طلبوا منه إلغاء وزارة شؤون الأسرى والمحررين، ولم يقل لهم: لا، حين طالبوه بوقف التحريض كشرط لاستئناف المفاوضات، ولم يقل لهم: لا، حين فاوض في ظل التوسع الاستيطاني، ولم يقل لهم: لا، وهم يهودون المسجد الأقصى، ويضمون القدس، ويقتحمون رام الله، ويقتلون 167 فلسطينياً في الضفة الغربية سنة 2016، ولم يقل لهم: لا، وهم يعتقلون 6600 فلسطيني من الضفة الغربية سنة 2016 فقط، ولم يقل لهم: لا، وهم يهدمون عشرات البيوت، ويقيمون مئات الحواجز على طرقات الضفة الغربية!.
فهل سيقول محمود عباس للإسرائيليين: لا، وهم يوعزون للاتحاد الأوروبي، ليعلن في مطلع هذا العام بأنه سيتبع سياسة جديدة تقضي بوقف توجيه 30 مليون يورو من أموال رواتب موظفي غزة، وتحويلها لدعم العائلات الفقيرة ومشاريع التنمية والبنية التحتية وخلق فرص عمل؟.
لم يكن القرار الذي اتخذه رامي الحمد الله بخصم 30% من رواتب موظفي غزة إلا استجابة لطلب الاتحاد الأوروبي الذي يأتمر بأمر إسرائيل، فقرار الخصم من رواتب موظفي قطاع غزة ليس قراراً فردياً، ولا يقدر عليه رامي الحمد الله، ولا يقوى على التفكير فيه مجلس الوزراء، ولا يجرؤ على اتخاذه محمود عباس نفسه دون حصوله على ضوء أخضر من (إسرائيل)، التي درست درة الفعل التنظيمية على مثل هذا القرار، وقدرت آثاره الجانبية على تماسك حركة فتح، وانعكاساته السلبية على حياة الناس في غزة، ومدى تمسكهم بالسلطة، ومن ثم أصدرت (إسرائيل) تقديراتها التي استندت إلى تخطيط دقيق لمعالم المرحلة السياسية القادمة.
فما الذي تريده (إسرائيل) في المرحلة القادمة، ويمهد له قرار الخصم من رواتب موظفي غزة؟
تريد (إسرائيل) أن ترى غزة وقد غرقت مع مقاومتها في البحر، وانفصلت بحياتها وشئونها عن الضفة الغربية، وتريد (إسرائيل) أن تفكك الرابط السياسي بين غزة والضفة كما فككت مع أوسلو الروابط السياسية بين الضفة الغربية وفلسطينيي المنافي، وفلسطينيي الـ48، ليسهل بعد ذلك تمرير الحلول السياسية المنسجمة مع الرؤيا الإسرائيلية التوسعية، وتريد (إسرائيل) أن تقضى على تنظيم حركة فتح، وأن تهين كوادره، وأن تقوض الترابط بين عناصره، بهدف القضاء على أي ترابط معنوي أو تنظيمي بين مدن وقرى الضفة الغربية، وكل ذلك مقدمة لتفكيك مفاصل القضية الفلسطينية، وبعثرتها على مصالح أشخاص ومناطق لا صلة لهم بالثوابت الوطنية.
وطالما كان الخصم من رواتب موظفي قطاع غزة لا يهدف إلى تقويض اقتصاد غزة فقط، وإنما هو خطوة سياسية مدروسة على طريق الفصل النهائي بين غزة والضفة الغربية، فإن الرد على مثل هذه الخطوة ليس مقتصرًا على قيادة حركة فتح في غزة، وإنما تمس وجود قيادة حركة فتح في الضفة الغربية أيضاً، والخصم من رواتب موظفي غزة لا يضر بـأهل قطاع غزة فقط، وإنما يمهد لسحق موظفي الضفة الغربية، وإلحاقهم بعد فترة بمنسق شؤون المناطق، والخصم من رواتب موظفي غزة لا يضر بتماسك تنظيم حركة فتح بمقدار ما يضر بوجود كل التنظيمات التي ينصب لها محمود عباس المشانق، بعد أن يفرغ من إعدام حركة فتح مع انتهاء عقد جلسة المجلس الوطني الوهمية في رام الله في الأشهر القادمة، وخصم رواتب موظفي قطاع غزة لا يضر بالأسواق في قطاع غزة، وإنما يضر بوجود الإنسان الفلسطيني في مدن الضفة الغربية التي تحاصرها المؤامرة، والاقتلاع، وتصفية الوجود من الجذور.
الخصم من رواتب موظفي قطاع غزة يستوجب الرد الوطني والشعبي والرسمي والتنظيمي والمؤسساتي وعلى كافة المستويات المحلية والعربية والدولية وبكافة القدرات، لأن الصمت على قطع أرزاق خمسين ألف موظف في غزة هو جس النبض الأول لتمرير الأطماع الصهيونية في ضم الضفة الغربية، وتهويد القدس، وتصفية القضية الفلسطينية.