أنا أم الأسير نضال زلوم الذي أُطلق سراحه برعاية مصرية في صفقة وفاء الأحرار، بعد أن حفيت أقدامي وأنا أتنقل من سجن لآخر من سجون القهر والعذاب الصهيونية مدة ثلاث وعشرين سنة بالكمال والتمام، منَّ الله علينا وعانقت ولدي الحبيب في فضاء الحرية بعيدًا عن حُجرات الزيارة وشباكها وزجاجها الذي يفصل الأرواح عن الأجساد، وفرحنا فرحة لا يعلم حجمها إلا الله، حيث عانقَتْ السماءُ بكل نجومها وزينتها أرضًا اشتاقت طويلًا لنسائم العزَّة والحرية والكرامة، ولقد كنتم -مصر العروبة- حاديًا لهذا العناق العظيم بين السماء والأرض، سقتم سحب الحريّة فرَوتْ ربوع فلسطين بأحرارها ورجالها الشجعان، ما من مدينة ولا قرية ولا مخيم إلا كان له نصيب من طهر عروبتكم وجميل شهامتكم وأصالة نخوتكم، وعانق ابني الحرية من بين ما يزيد على ألفٍ تنسَّموا عبق روح عروبتكم المجيدة العالية.
بعد سنتين، وبعد أن تزوج وأنجب ابنتين حيث تنفّس قبسا من حياة عزيزة كريمة جاءته زبانية الاحتلال، كعادتهم ليس لهم إلا أن ينقضّوا على سعادتنا وينقضوا العهد والميثاق وكل التفاهمات، لم يرعوا فينا إلًّا ولا ذمّة ولم يحترموا رعايتكم العظيمة لهذه الصفقة ولم يقيموا وزنا لعروبة مصر التي تسري في عروقنا، وقد أخذونا بجريرةٍ لا علاقة لنا فيها، إنما انتقام وتفريغ لأحقادهم وابتزاز لنا ولكم، لم يثبت أي دليل يبرّر هذا الاعتقال الشرس، إنما هو البحث عن ورقة ضاغطة ليلعبوا فيها لعبتهم السافرة، أعادونا إلى مدفن الأحياء من جديد، هو بالفعل مدفن لهم تحت وقف التنفيذ؛ لأن أغلبهم الآن مسنّون، منهم من تجاوز الستين ومنهم من تجاوز الخمسين، ساقوهم إلى حيث الموت البطيء قطرة قطرة بما يحملون من أمراض السجون في إثر حبساتهم الطويلة الماضية، فنضال مثلا يحمل عدة أمراض أقلّها خطرا غيبوبة تأتيه بين الحين والآخر، ولا يدري سيقوم بعدها أم يبقى في غيبوبته، هم الآن في مدافن الأحياء ظلما وزورا في حادثة لا سابقة لها، وقد دخلوا في السنة السادسة في اعتقالٍ لا ناقة لهم فيه ولا بعير.
أنا باعتباري أمًّا خَوَّلتُ نفسي الحديث باسم الأمهات اللواتي أعيد اعتقال أبنائهن، من هذه الأمهات مَنْ قضت نحبها وهي تنتظر إفراجا عن دُرّة قلبها، ومنهن ما زالت تنتظر هذه اللحظة التي تحتضن فيها ولدها قبل أن تفتح لها السماء أبوابها وتُلحَد في قبرها، وما أقسى من أن يتلقى الأسير العزاء بأمه وهو غارق في مدافن الأحياء، قرّرت أن أرفع صوتي باسمهن جميعا وكلّي أمل أن تلامس نخوة المعتصم وعزّ العروبة ووفاء الأحرار، وحيث إنكم كنتم الراعي والحادي والميسّر للصفقة التي حرّرت هؤلاء الأبطال من براثن تلك السجون العاتية وأشرقت شمسنا حينها من عمق ظلماتهم الحالكة.
هناك مثلا ممن أعيد اعتقالهم مَنْ وُوريَت أمه تحت الثرى قبل أن يشمّ شذا قلبها مثل نائل البرغوثي الذي وصل مجموع سنيِّ حبسه (ما قبل الصفقة وبعدها) أربعين سنة، وهناك ضرير لم يرَ أمّه إلا بنور بصيرته، لا وهي حية ولا بعد أن فارقت الحياة، علاء البازيان الذي وصلت مجموع حبساته الست والثلاثين سنة، وهناك من تجاوزتهم كلّ الإفراجات وما زالوا يعقدون الأمل على الصفقة القادمة وهم إخواننا من فلسطين المحتلة عام ثمانية وأربعين، وعميدهم كريم يونس يقترب في سجنه من أربعين سنة، أرقام فلكية غير مسبوقة تنوء بحملها الجبال ولكن الإنسان الفلسطيني يحملها صابرا محتسبا ولا يفقد الأمل البتّة.
لقد أطبق ظلامهم علينا وأحكم الخناق على صدورنا، لم نعد نرقب الفجر القادم إلا بإيماننا بربنا ثم بنور قلوب أحرارنا، لم يعد لنا أمل إلا بهذا النور الذي يلوح لنا في أفق مصر كِنانة العرب وأحرار هذه الأمّة الخالدة، كلنا أمل أن نطرق جدران الخزّان وألَّا نموت صامتين وبيننا وبين حريّة أبنائنا خطوة واحدة، الأمل كبير ومن عمق مدافن الأحياء نصنع الحياة بإذن الله وما ذلك على الله بعزيز.