"لا يقاس الوفاء بما تراه أمام عينيك، بل بما يحدث وراء ظهرك"، أتؤمن بذلك؟، أنا مؤمنٌ جدًّا، والدليل:
استمعت لقصة سيدة رحل عنها زوجها الطبيب قبل عام ونصف، وهي في ريعان شبابها، حكت قصة معاناته مع المرض الخبيث، وتضحياتها من أجله منذ اكتشاف إصابته مرورًا بعذابات رحلة العلاج ومشاق السفر للخارج حتى أتاه اليقين.
تحدثت هبة بقلبها، لا بلسانها، فسمعتها بقلبي، وكأنها تسترجع شريط الذكريات الذي استمر عشر سنوات وانقطع بانقطاع أنفاس زوجها، وصراحة شعرتُ بمدى الوفاء الساكن جوارحها تجاه ما يتعلق بزوجها، فحافظت على كل شيءٍ: مصحفه، وملابسه، وكتبه، وسبحته، وعطره، ومريوله الأبيض، وبدلة العمليات الخضراء، حتى علبة المكسرات التي فتحها ولم يُكمل تناولها ما زالت على حالها، مكان جلوسه غير مسموح لأحد بالجلوس فيه، هاتفه النقال الذي اشترته له قبل وفاته بأسبوع لم يستخدمه أحد، ولا تطهو الطعام الذي كان يحبه خشية أن يؤنبها ضميرها أو أن تشعر بعدم الوفاء، أن تأكل هي دون أن يكون معها ولا يأكله، لكنها تصنعه وتوزعه صدقة عن روحه، وترتدي الأسود من الملابس، وكأن الزمان يقول لها: "الأسود يليق بك".
آلمها جدًّا فراق زوجها، فلم تعد ترى في الحياة ما ومن يستحق الحياة، انقطعت عن العالم الخارجي لأنه ليس فيه، فقد كان لها كل شيء، وبغيابه غاب عنها كل شيء، رحل زوج هبة عنها إلى الأبد، وبقيت سحابة أدمعها تمطر وجعًا وحنينًا واشتياقًا.
مكثت هبة في المنزل مدة طويلة، اسودّت الحياة في وجهها، لم تستقبل أحدًا، ولم ترد على مكالمات الهاتف، حتى شُرفة المنزل التي وضُع فيها نعش زوجها وودعته فيها، لم تجرؤ على فتحها.
قررت هبة قهر الظروف من أجل صغيرتيها فعادت لعملها من جديد ملبية وصية زوجها المرحوم، فوضعت صورته على شاشة حاسوبها الخاص في العمل لتحاكيه وتتحدث إليه، وكانت تزور ضريحه ومعها الورود فتجلس تشتكي ألم الفراق، فتشعر بالراحة بجانب قبره وكأنه يسمعها.
واصلت سفينة الحياة سيرها حتى وصلت إلى مرفأ السنة الأولى من الغياب ولهيب الشوق لحبيب القلب يزداد، فأطلقت هبة العنان لمشاعرها لتخط تغريدة على حسابها في (فيس بوك):
عامٌ على رحيلك، عامٌ بمائة عام، عامٌ وقلبي موشحٌ بالسواد، غابت ضحكتي، وحضرت دموعي، عامٌ وأنا أبحثُ عنك في كل ركنٍ بالمنزل، عامٌ ووجع رحيلك ما زال حديث الولادة، عامٌ وصغيرتانا تنتظران عودتك للمنزل، فذكريات الماضي الجميلة وصورة وجهك المشرق وبعض المشاكسات ستبقى عالقة في ذهنيهما إلى الأبد.
بقيتُ بجانبك حتى آخر دقة قلب لك، وحين نطقتَ بالشهادة، وشرد بصرك إلى العالم الآخر، واستسلمت للرحيل، سقطت يداك في يدي، قبلتها وقلبي يرتجف، وحضنتك الحضن الأخير، وهمستُ في أذنك: مهلًا يا شريك العمر والروح، ما زال في الأحلام بقية.
وعن ذكرياتها في حافلة (275) التي توصلها إلى مستشفى المُطّلع الخاص بمرضى السرطان في القدس المحتلة كتبت: "حكايته لن يفهمها إلا فلسطيني مشى في شوارعها وبكى داخل أقصاها، ومكث في مستشفياتها واشترى من كعكها وزعترها، وتنسم هواءها البارد".
تلك قصة هبة التي ذبحت شهوتها وحبها للحياة بعد رحيل من كانت تتنمى أن تُكمل حياتها معه حتى آخر عمر لها سندها وقوتها، ووهبت نفسها لتربية هديته لها في الحياة، "بنتين" لا يكف لسانهما عن السؤال:
ماما وين بابا؟، إمتى بدو يرجع؟، اشتقناله، بدي أورجيه أواعي العيد عشان يعطيني العيدية، ماما شفت واحد يشبه بابا بالشارع يمكن رجع تاني، ماما نفسي بابا يجي عنا عالمدرسة".
تأتي هذه الكلمات كخنجرٍ يطعنُ قلب هبة بصمتٍ وألمٍ، لكنها تتمالك نفسها وتجيب: "راح نشوفه بالجنة، إن شاء الله".
إن هبة تشعرنا بعظمة الزوجة الوفية التي ترى في وفاءها لزوجها حتى بعد وفاته جزءًا من إنسانيتها ورسالتها الأنثوية.