أظهرت قيادة الاحتلال الإسرائيلي خلال العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين، متمثلة في حكومات متعاقبة قادها بنيامين نتنياهو، قلقها الواضح من حملات المقاطعة، فأعلنت توجّهات مضادّة وصاغت إستراتيجيات وخططًا وحملات وتحرّكات واتصالات بهدف محاصرتها في العالم، وهو ما سيستمرّ بلا هوادة في العشرية الثالثة على الأرجح.
تفاقمت، تبعًا لذلك، حملات الوصم والتقييد والحظر التي ينتهي بعضها بمقاطعة المُقاطِعين ومعاقبة المُعاقِبين، وتجلّى ذلك مثلًا في هيمنة الأدبيّات المضادة للمقاطعة على ما يتعلّق بها في الفضاء الشبكي، واتخاذ إجراءات حكومية وإدارية وبرلمانية في عدد من الدول الغربية ذات أثر ترهيبي للنخب والجمهور؛ من مغبة الانخراط في حملات المقاطعة أو التجاوب معها، أدّى ذلك إلى تزايد التحديات والعوائق التي تواجه مساعي المقاطعة ونزع الاستثمارات وفرض العقوبات.
إنّ خشية قيادة الاحتلال حملات المقاطعة التي تستهدفه تعود إلى المخزونات المحتملة من فرص النجاح التي تنطوي عليها، وإلى فعالية هذه الأساليب في الضغط والتأثير وحشد التضامن العالمي؛ من واقع خبرات تاريخية سابقة، خاصة مع استحضار نموذج جنوب أفريقيا ونظامها العنصري البائد الذي جوبِه بمقاطعة عالمية بدافع أخلاقي.
ثم إنّ فعالية أسلوب الامتناع الذي تقوم عليه المقاطعة تمثِّل بحدّ ذاتها هاجسًا مؤرِّقًا لقيادة الاحتلال؛ فالمقاطعة قد تؤتي أكلها حتى دون بذل جهود من الأوساط المقاطِعة؛ وفي هذا الشأن ينعقد التأثير بمجرد الكفّ عن التصرّف الذي يخدم الاحتلال.
إنّ المقاطعة، زيادة على ذلك، مؤهّلة بخطابها وأساليبها وتأثيراتها، لأن تتخلّل أوساطًا عدّة في بيئات شتى بالعالم، وقد تصير ثقافة عامّة فتتدحرج على هذا النحو لتفرض واقعًا ضاغطًا على الاحتلال، ولو جاء ذلك في المستوى المعنوي وحده.
من الواضح أنّ المقاطعة، بموجب هذه الملابسات وغيرها، استثارت قلقًا وجوديًّا مستقبليًّا لدى الاحتلال، وقد جاء ذلك بمنظور المآلات لا من الواقع الراهن وحسب.
من الهواجس التي حرّكتها المقاطعة أنها تستعيد خبرة النبذ والعزلة التي واجهها كيان الاحتلال منذ إقامته مع محيطه وأوساط عدّة بالعالم، ظلّ تجاوُز هذه الحالة من أولويّات قيادة الكيان منذ منشئه، فتمكّن من إحداث اختراقات متعدِّدة وواسعة بدءًا من أواخر السبعينيات، فأحرز اعترافات رسمية وعملية به، وتعاونًا مطّردًا من دول وأوساط امتنعت عن ذلك من قبل، وإن لم ينعم بعلاقات خارجية "اعتيادية" بعد، يكشف هذا البُعد أنّ مساعي المقاطعة ونزع الاستثمارات وفرض العقوبات تعمل في اتجاهات معاكسة، لما يتحرّاه الاحتلال إستراتيجيًّا بشكل دؤوب من تجاوز مراحل العزلة السابقة.
وتمسّ المقاطعة أيضًا الطبيعة الاعتمادية التي لازمت هذا الاحتلال، الذي اتّخذ كيانه صفة اعتمادية على إسناد أوساط من العالم له، واستمرّ على هذا المنحى المُلازم لتجربته؛ ما يجعل دولته عالة على دعم وإسناد و"شراكات" خارجية سخيّة في مجالات عدّة، وكذلك حال مؤسساتها وقطاعاتها، وصولًا إلى مجتمع الاحتلال ذاته من الاستيطان إلى الحياة الأكاديمية والثقافية، تضغط اتجاهات المقاطعة على هذه الصفة الاعتمادية التي تبقى شريان حياة لا غنى له عنه؛ مهما حقّق اقتصاد الاحتلال من ازدهار وقطاعاته العلمية والتقنية والصناعية من تقدّم وريادة.
ما تأثيرات المقاطعة في الواقع؟
ثمة أخطاء منهجية تعتري محاولة قياس تأثير جهود المقاطعة ونزع الاستثمارات وفرض العقوبات التي تستهدف الاحتلال الإسرائيلي، مثل النظر إلى الأثر في النطاق الموضعي المباشر، أي في مجال الاستجابة العملية لنداءات المقاطعة مثلًا، دون ملاحظة أنّ هذه النداءات هي في الوقت عيْنه مدخل لإبراز قضية فلسطين عمومًا وبعض ملفّاتها تفصيلًا، ما من شأنه أن يرفع من منسوب التفاعل معها.
كما أنّ محاولة قياس أثر حملات المقاطعة من حصيلة الإنجازات العملية المتحققة في التجاوب مع دعواتها؛ من شأنه أن يكتفي بهذا المجال دون ملاحظة تأثيرات أخرى لهذه الدعوات قد لا تتجلّى بوضوح أو لا تتمظهر بصفة مباشرة، فثمة تأثيرات متعددة المستويات لخطاب المقاطعة لا تتوقف عند حدود التجاوب العملي المباشر مع نداءاته، إنّ الدفع باتجاه المراجعة الأخلاقية لمشروعية علاقات التعاون والاستثمار، وتحفيز نقاشات مجتمعية في هذا الاتجاه؛ مما قد يضع الاحتلال ذاته موضع تساؤل.
أمّا السؤال النمطي: هل أسلوب المقاطعة ذاته مُجدٍ حقًّا أم لا؟؛ فيبقى سؤالًا إشكاليًّا، من وجوه عدّة، فالاختيارات التضامنية والنضالية هي بحدّ ذاتها مواقف مبدئية أساسًا، ومسألة الجدوى تركِّز بطبيعتها على البُعد الوظيفي والمردود التفاعلي لهذه الاختيارات، وقد تذهب إلى قياس الأثر بمنطق الأسلوب المتفرِّد أو الأداة الواحدة، وهو منحى كفيل بأن يهوِّن من اختيارات متعدِّدة لأنها قد تعجز منفردة عن إحداث فارق حاسم أو نوعي، أي أنّ أداة المقاطعة لا تعمل وحدها أساسًا في الصراع مع كيان احتلال وعدوان واضطهاد وتمييز عنصري، وتأثيراتها تتجاوز التجاوب المباشر مع النداءات والدعوات التي تطلقها؛ فهي تساعد على وضع قضية فلسطين ضمن الاهتمامات العامّة وتضغط على مؤيِّدي الاحتلال وتحرِّض على المراجعة النقدية لانتهاكاته.
ما ينبغي تأكيده أنّ مقاطعة الاحتلال تعبِّر عن موقف مبدئي وأخلاقي بصفة مستقلّة عن محاولة تسويغه بمردودات عملية؛ فحتى إن لم تَبْدُ هذه المقاطعة مُجدِية كما قد يُحسَب؛ فإنها تبقى تعبيرًا لا غنى عنه عن التزام مبدئي وقيمي.
لا تقتصر حملات المقاطعة على استجابات عملية معها تقوم على الكفّ عن سلوك وحسب؛ فمن مردوداتها إبطاء التفاعُل "الإيجابي" مع الاحتلال أيضًا، وتعزِّز خطابات المقاطعة وجهودها مواقف رافضي الاحتلال والمتضامنين مع الشعب الفلسطيني، ولها مفعول داعم لاختياراتهم، كما تُخفِّض مساعي المقاطعة منسوب الأمان المستقبلي للاستثمارات ووجوه التعاون القائمة مع الاحتلال، ما يضغط عليها باتجاهات تثبيطية.
أمّا في المستوى المعنوي، فإنّ خطابات المقاطعة وجهودها تضغط على الضالعين في التعاون مع الاحتلال وتفرض عليهم مساءلة أخلاقية قد تقضم من رصيدهم المعنوي أيضًا، كما تضغط على جماهير الاحتلال باتجاه الإحساس بنموّ النبذ العالمي المترتِّب على ما يرتكب باسمهما وبمعيّتها، علاوة على تأثير المقاطعة في الدعم المعنوي للشعب الفلسطيني والجهود المتضامنة معه.
وفي مستوى الثقافة المجتمعية والعالمية تتأهّل خطابات المقاطعة وجهودها لأن تترك تأثيرات متجدِّدة باتجاه تطوير ثقافة نبذ الاحتلال في أوساط جمهورها، وفي المجتمع المدني في بيئات تحرّكها، وفي ذلك ما يوصَف بالمجتمع المدني العالمي.
لا ينبغي أن تُقرَأ خطابات المقاطعة وجهودها موضعيًّا في نطاق اختصاصها المباشر؛ فهي بمنزلة مدخل للتعرّف إلى قضية فلسطين وإظهار التضامن معها واقتراح وجوه من التصرُّف العملي بموجب ذلك أيضًا، إنّ لهذه الخطابات والجهود تأثيراتها المؤكدة في تنمية الوعي بالقضية لدى أوساط وفئات بالعالم، وتنمية روح الالتزام المبدئي والقيمي والأخلاقي المشفوعة بروح تصرّف ومبادرة.
مكامن القوة في حملات المقاطعة
نهضت حملات المقاطعة ونزع الاستثمارات وفرض العقوبات التي تستهدف الاحتلال الإسرائيلي على خطاب إنساني وقيمي ومبدئي واضح ومُيسّر، مؤهّل لعبور الثقافات والخصوصيات والبيئات، وهو يتضمّن خطوات ومطالبات محدّدة تحفِّز استجابات ممكنة في مجالات شتى.
تعزِّز حملات المقاطعة جاهزية التصرّف، المتمثل في تجسيد الالتزام القيمي والمبدئي والأخلاقي وتحويل المشاعر التضامنية إلى مواقف عملية، وتمليك الأفراد والجماهير والمؤسسات أدوات الفعل والتأثير التي تستشعر معها قدرة الضغط على الاحتلال.
ومما تمتاز به هذه الحملات أنه تقوم على إدماج فلسطين والتضامن العملي معها في مجالات وحقول شتى، مع تطوير تفاعل عالمي مع قضيتها العادلة، فمساعي المقاطعة ونزع الاستثمارات وفرض العقوبات تمتدّ عبر طيْف واسع ومتنوّع من المجالات والاختصاصات والحقول التي تُعنى بها فئات المجتمع كافّة، من المستثمرين والتجّار ورجال الأعمال والمورِّدين ومتاجر السلسلة والتجزئة، إلى القطاعات المهنية والوظيفية والتخصصية المتعددة، مرورًا بالمثقفين والفنّانين والأدباء والرياضيين والشخصيات العامّة، وأيضًا المشرِّعين وصانعي القرار على المستويات البرلمانية والبلدية ومجالس إدارة وهيئات عمومية في مؤسسات وهيئات متعددة أيضًا.
تَستنفِر هذه الحملات استجاباتٍ مبدئية وقيمية وأخلاقية من الجمهور والأوساط والمؤسسات بالكفّ عن دعم مباشر أو غير مباشر لنظام احتلال ولانتهاكات يقترفها، حتى دون أن يقتضي ذلك من هذه الأطراف والأوساط أن تتبنّى قضية فلسطين في عمومها أو أن تتضامن معها، وهو ما يوسِّع نطاق الاستجابة المحتملة، فنزع استثمارات صناديق تقاعد أوروبية من مؤسسة "إلبيت سيستيمز" للصناعات العسكرية في فلسطين المحتلة، مثلًا، لا يقتضي أن يَصدُر بالضرورة عن موقف تضامني مع فلسطين؛ وإنما يكفي فيه رفض الاستثمار في أدوات الحرب والعدوان حسب مواثيق أخلاقية معتمدة.
عمدت حملات المقاطعة إلى إظهار تأثير السلوك على الواقع، ما يقضي تحميل المؤسسات المعنية والجمهور المُخاطَب مسؤوليّات من وجهيْن؛ فسلوك التعاون مع الاحتلال يُؤدِّي إلى تشجيع الانتهاكات، وسلوك الامتناع يُعبِّر عن تمثُّل مسؤوليّات مبدئية وقيمية وأخلاقية، ومن وجوه فعالية خطاب المقاطعة ونزع الاستثمارات وفرض العقوبات أن يُعزِّز الوعي بأنّ الامتثال لا يعني مجرد الوقوف مع "شعب آخر" أو التضامن معه؛ فهو أساسًا تعبير عن التزام قيمي ومبدئي وأخلاقي واقع على الفرد والمجموع، فالموقف من الاحتلال يبقى اختبارًا لمنظومة قيَم ومبادئ وأخلاقيّات يُفترض أنّ المجتمعات تتبنّاها وتتباهى بها.
على هذا النهج سعت حملات المقاطعة إلى استثمار قدرات المجتمع المدني وخبراته المتنامية، والعمل من طريق أدوات المجتمعات وأوساطها، مثل النقابات، والاتحادات الطلابية، والجمعيات العمومية للتعاونيات وصناديق التقاعد، والمجالس البلدية والنيابية، وتجمّعات الفنانين والمثقفين والأدباء، وناشطي مواقع التواصل الاجتماعي، وغيرهم، كما حرصت هذه الحملات على إدماج مشاهير وشخصيات عامّة وقادة رأي في جهود المقاطعة ونزع الاستثمارات وفرض العقوبات، فهي بالأحرى شخصيات مُخاطَبة بمطالبات للكفّ عن التعاون مع فعاليات الاحتلال ونشاطاته، ومن شأن تجاوب هذه الشخصيات أن يؤدِّي إلى تأثيرات مهمّة في أوساط الجماهير المتحلِّقة حولها والمتأثِّرة بها بطبيعة الحال.
ومن الأبعاد الفعّالة في حملات المقاطعة أنها أحرزت في عدد من البيئات الغربية التي تنشط فيها نجاحات في كسب الأجيال الجديدة، خاصة في الجامعات، وعزّزت حضورها عبر المنصّات الشبكية، بصفة تأهّلت للتأثير المتنامي؛ حتى مع إحجام الأوساط الإعلامية والسياسية والنخب التقليدية عن التفاعل الإيجابي مع مساعيها ونداءاتها.
أطلقت حملات المقاطعة نداءات متعددة المستويات، جماهيرية ومؤسسية وتخصصية، بصفة عامة ومفتوحة أحيانًا أو موضعية ومحدّدة النطاق أحيانًا أخرى، وفق مناحٍ تحرّت تحقيق استجابات في نطاقات الفرد والمجموع والمؤسسات الخاصة والهيئات العامة والدول أيضًا.
عوّلت هذه الحملات على قوّة الامتناع لدى الأفراد والشخصيات والجماهير والتجمّعات والمؤسّسات، فالانخراط في نبذ الاحتلال لا يتطلّب بموجب ذلك "فعلًا" أو "تصرّفًا" بالضرورة، وإنما قد يتحقّق "بالامتناع عن فعل"، إنّ "السلبية" في هذا المقام، أي الامتناع، هي "إيجابية" بحدِّ ذاتها، أي أنّ سلوك المقاطعة هو في أساسه إحجام، وهو ما لا يمكن محاصرته بالكامل، لأنه ما من سلطة كان بوسعها إلزام شابّة، مثل المغنية النيوزيلندية "لورد"، بأن تُغنِّي لمجتمع الاحتلال وعلى منصّته وقرب مستوطناته، رغم الضغوط وحملات التشهير التي طاردتها سنة 2018م، وما من أحد بوسعه أن يُرغِم مستهلكًا على شراء منتج محدّد من صناعات الاحتلال، وما من سلطة تقتدر على إلزام صندوق متقاعدين بالاستثمار في شركة تصنع أسلحة وذخائر فتاكة؛ لجيش احتلال لا يمكن حجب جرائمه وانتهاكاته عن عيون العالم في زمن الصورة والتشبيك والبثّ المباشر.