ليست المسألة في إعلان ضمّ أجزاء من الضفة وغور الأردن، فسواء أعلنت حكومة العدو ضمّها لأكثر من ٣٠ في المئة من الضفة ووادي الأردن، وفق الخرائط التي يجري تحضيرها، أم لم تُعلن، ويبدو أنها حسمت أمرها وبغطاء أميركي كامل، فمسألة موعد الإعلان ليست بهذه الأهمية، طالما أنّ الكيان الصهيوني قد حسم العديد من القضايا، مثل "يهودية الدولة" والقدس، واللاجئين، وسجّل اختراقات على صعيد التطبيع مع الخليج والمغرب العربي. وظهر جلياً في إعلان "صفقة القرن"، ما تبقّى للفلسطينيين، من مساحة جغرافية مقطّعة الأوصال وعبارة عن كانتونات متفرّقة ومنتشرة بين الضفّة وغزة، وفوق ذلك ما يحتاجون إليه من تأهيل، أربع سنوات كحدّ أدنى، ليستحقّوا إعلان دولتهم العتيدة، كاسم على غير مسمى: كيان فلسطيني وظيفي يقوم أساساً على الوظيفة الأمنية. بدأ ذلك مع أوسلو، وسيتعزّز مستقبلاً مع "صفقة القرن"، كجزءٍ من العقيدة الأمنية لتشريع الاحتلال وحمايته.
إذا كان الكيان الصهيوني قد حسم أمره، وبات مشروعه واضح المعالم، وهو على أنقاض ما يسمى بحلّ الدولتين، كما روّجته طبقة أوسلو السياسية، على مدى أكثر من ربع قرن، باعتباره الحد الأدنى المقبول. ويبدو أنّ المحيط العربي في حال جهوزيّة كاملة لتقبّل وتسويق المخططات الأميركية، والخطوات الإسرائيلية، ويتعامل مع ما يجري كمخرجات منطقية لمقدمات بدأت منذ ما قبل مدريد، عندما تصدّع الحال العربي بعد احتلال الكويت، مروراً بأوسلو وصولاً إلى ما سمي بـ"الربيع العربي"، جرى خلالها تكسير وتدمير كلّ حواجز الممانعة وخطوط الدفاع، وتفكيك منظومات الاجتماع العربي الوطني والتضامن القومي، في الثقافة والسياسة والاجتماع والاقتصاد، ولو بحدّها الأدنى، حتّى بات الميدان فارغاً ومهيّأً لتقبّل كلّ ما يُطرح.
المشهد الفلسطيني والعربي الراهن، بما أوجزناه أعلاه، يجعل فهمَ ما يجري سلساً ومسوّغاً منطقياً، لأنّ ما يُسمى بـ"صفقة القرن" ليست نبتاً شيطانياً، خارج الزمان والمكان، أو نتائج بدون مقدّمات، هي نتيجة لأداء سياسي، يكثّف إدارة الصراع على مدى نصف قرن من الزمان، وإن لم يتم التعامل مع ما يجري حالياً من حسم ملفات القضية المركزية، بخطوات متسارعة من قبل الكيان الصهيوني، وبغطاء أميركي كامل وتواطؤ عربي وموقف باهت على الصعيد الدولي، بالقدر الكبير من الجدّ والمسؤولية والعمق، فإنّ حالة العجز ستتعمّم وتتعمّق إلى حدّ الانتحار.
القاطرة أولاً…
على الملك أن يحسم أمره للإطاحة بالمقولات السيّئة الصيت "لسنا ملكيين أكثر من الملك"، أو "نقبل بما يقبل به الفلسطينيون". أولاً، لكي تتمكّن القاطرة من القيام بمهمّتها في جرّ القطار، يجب أن تكون بوضع سليم ومعافى وبكامل طاقتها، ثانياً أن تكون على السكة الصحيحة، وفي الاتجاه الصحيح، وإلا فإن القطار قد يصل إلى حيث لا نريده أن يصل.
على الفلسطينيين أولاً حسم العديد من الملفات الداخلية، وهذه مقدمات لازمة حكماً، كمعيار للجدية والمسؤولية التاريخية في التعامل مع ما يسمى "صفقة القرن". هل "منظمة التحرير الفلسطينية" بخير؟ كمؤسسات وطنية جامعة ومرجعية عليا ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، هل ما زالت حاملاً للمشروع الوطني الفلسطيني؟ هل مشروعيّتها الشعبية ما زالت كما كانت منذ عقود، ما قبل اتفاق أوسلو؟ ألا تحتاج هذه المشروعية إلى إعادة اختبار، على مستوى كل تجمّعات شعبنا، في الداخل والخارج؟ وهل تكفي الانتخابات التشريعية في مناطق السلطة، لتثبيت هذه الشرعية عوضاً عن المشروعية؟ كما يُسوّق أحياناً. لا يمكن الاستناد فقط إلى المواقف الفصائلية في تأكيد مشروعية المشروع الوطني، وبات من الضروري إزالة الالتباس في فهمنا لهذا المشروع، فهناك من يصرّ على فهمه الخاص للمشروع الوطني وحشره في أوسلو، وقد يشذبه لاحقاً ليتناسب مع "صفقة القرن"، في الوقت الذي يعتبره آخرون معبّراً عن تطلّعات وآمال الشعب الفلسطيني في كلّ أماكن تواجده.
ولأن شرعية الفصائل ليست صكوكاً أبدية، هي أولاً وأخيراً رهنٌ بالقدرة المتغيّرة والمتبدّلة لهذه الفصائل، على حمل تطلّعات وآمال الشعب الفلسطيني، وفقاً لظروف ومعطيات مرتبطة بمديات زمنية. الجدية والمسؤولية تقتضيان القول بصراحة، إننا نعيش في ظروفٍ صعبة ومعقّدة، ويتراكم الفشل ويتفشى بعدم قدرة الطبقة السياسية بمجملها على إنهاء الانقسام، وتقديم بديلٍ بأدوات كفاحية جديد، وبتنا أمام وضع التخبّط والفوضى، وهوة شاسعة بين الفصائل وشرائح واسعة من الشعب الفلسطيني.
وبين المنظمة والسلطة، لا بدّ من إظهار التخوم، في كلّ التفاصيل التي تكرّر طرحها، ولا داعي لإعادة سردها. وبين المنظمة و"حركة فتح"، كما وبين الأخيرة والسلطة، بما تشكّله من أجهزة ومؤسسات، مدنية وسياسية وأمنية. عندما تُقرّر حكومة العدو تقديم قرضٍ مالي إلى السلطة، فإنها تظهر مدى حرصها عليها وحاجتها إليها، وخصوصاً في هذه الفترة التي تتحضّر فيها (إسرائيل) لاتخاذ قرارات كبيرة. وعندما تقبل السلطة القرض، فهي تكشف الهامش المحدود الذي تنوي اللعب فيه، والخيارات الممكن أن تتخذها في مواجهة قرارات الضم وخصم مخصّصات الشهداء والأسرى، وغيرها من متطلّبات وشروط "صفقة القرن". وفي الحال الضبابي المذكور مع غياب التخوم، فإنّ ذلك يؤذي "فتح" قبل السلطة، ويؤذي المنظمة قبل "فتح" والسلطة.