فلسطين أون لاين

العودة إلى منظمة التحرير الفلسطينية

أعلن رئيس السلطة محمود عباس في 19 الشهر الماضي (مايو/ أيار) أن منظمة التحرير والدولة الفلسطينيتين قد أصبحتا في حلّ من جميع الاتفاقيات والتفاهمات الموقعة مع (إسرائيل) والولايات المتحدة الأميركية، بما في ذلك الاتفاقيات الأمنية. ولم يأتِ على ذكر السلطة الفلسطينية، وما هو مآلها، وهل يتم تفكيكها أم إعادة هيكلتها أم تسميتها؟ وهل تقبل (إسرائيل) بذلك بعد إعلان الرئيس؟ من اللافت للنظر أن السلطة الفلسطينية تعمل حتى الآن وكأن شيئًا لم يحدث، ومن الغريب أن أجهزة السلطة، من رئاسة وحكومة وأجهزة، تعمل بشكل روتيني، فيما عدا ما يقال عن أن أجهزة الشرطة في المنطقة "ب" إما أنها سحبت أو أعيد ترتيب أوضاعها. إلّا أن الأغرب من ذلك كله، أن الأجهزة الأمنية التي قام على تدريبها الجنرال الأميركي، دايتون، لم نعد نسمع عنها شيئًا. ومناط الاستغراب، أن السلطة الفلسطينية، وهي من النتائج المهمة التي أفرزتها اتفاقيات أوسلو، ظلت على حالها، مع أن المنطق يقول إنه إذا تم التحلل من اتفاقيات أوسلو، فإن ما ترتب عنها سينهار ويختفي بالضرورة.

ولكي نفهم ذلك، يجب السؤال: من أين جاءت فكرة "السلطة"، وكيف خُلقت ولماذا؟ فكرة تأسيس "سلطة حكم ذاتي" هي أساسًا من أفكار رئيس حكومة الاحتلال السابق، مناحيم بيغن، وقد طرحها في أثناء مفاوضاته مع الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، في عام 1979، عن دور فلسطينيي الأراضي المحتلة في إدارة شؤونهم ومستقبلهم السياسي. وكان بيغن صريحًا وحاسمًا في موقفه، أنه لا دولة فلسطينية بين النهر والبحر، وأقصى ما يمكن منحه للفلسطينيين هو سلطة حكم ذاتي.

وسار على هذا الموقف رؤساء الوزراء الذين سبقوا بيغن، والذين جاؤوا بعده، ولم يكن إسحق رابين استثناءً، فقد كرر الأقوال نفسها أمام الكنيست حين قدم له اتفاقية أوسلو. وقد مارس الرئيس الأميركي، جيمي كارتر، ضغطًا على بيغن، لحمله على تغيير موقفه، كي يمنح الفلسطينيين أكثر من حكم ذاتي وأقل من دولة، إلا أن بيغن كان متمسكًا بموقفه بعناد شديد، وخشية من أن تمارس عليه الإدارة الأميركية والدول الأوروبية ضغوطًا أكثر، أصدر الحاكم العسكري الإسرائيلي في عام 1981 أمرًا بإحداث ما سمّاها "الإدارة المدنية"، بحيث تتولى هذه الإدارة إدارة شؤون السكان في الأراضي المحتلة، أي إن الجهة التي أنشأت هذه الإدارة هي سلطة الحاكم العسكري، والذي حدد صلاحياتها. باختصار، الإدارة المدنية هي الذراع المدنية لسلطة الحاكم العسكري، الذي هو الحاكم الفعلي للأراضي المحتلة. وهكذا تولت الإدارة المدنية شؤون السكان المدنيين في الأراضي المحتلة منذ إنشائها في عام 1981، وظلت سلطة الحكم العسكري هي السلطة العليا، وهي مصدر سلطة الإدارة المدنية.

ظل الحال كذلك إلى أن وصلنا إلى اتفاقيات أوسلو، التي أنشأت سلطة حكم ذاتي، أطلق عليها اسم "السلطة الفلسطينية"، وشرحت الاتفاقية الرئيسية، وتعرف باسم "أوسلو II" الموقعة في عام 1995، كيف تُنشأ هذه السلطة، وشرحت أيضًا الصلاحيات التي تُنقَل من الإدارة المدنية إلى السلطة الفلسطينية، وبعد أن تنتهي من ذلك، تنحلّ الإدارة المدنية وتباشر السلطة الفلسطينية مهماتها. وهكذا نصت المادة 1/1 من اتفاقية أوسلو على أن تُنقَل الصلاحيات من الحكم العسكري (حيث نقلت بعض المهمات في المنطقتين أ وب) والإدارة المدنية إلى السلطة الفلسطينية، وذلك "طبقًا لهذه الاتفاقية، وتظل (إسرائيل) تمارس صلاحياتها التي لا يتم نقلها". وكانت الترتيبات التي وردت في الاتفاقية أنه بعد أن تُنقَل الصلاحيات من الإدارة المدنية تنحل هذه الإدارة، ويعيد الحكم العسكري تموضعه في الأراضي المحتلة.

بالممارسة العملية، لم تُحَلّ الإدارة المدنية، وإن تراجعت إلى الخلف، لكي تفسح في المجال لسلطة الحكم الذاتي الفلسطيني، بينما أعاد الحاكم العسكري تموضعه، وظهرت السلطة الفلسطينية على الساحة الفلسطينية بهمة ونشاط، وكأنها توحي لجمهورها بأنها "سلطة" حقيقية، وأطلقت على نفسها مسمياتٍ لم ترد في اتفاقيات أوسلو، ولكن لإشباع الغرور الذاتي، سكتت سلطة الاحتلال عن هذه المسميات، ما دام ما يحكم العلاقة مع الاحتلال اتفاقيات مكتوبة وموقعة. وباختصار، السلطة الفلسطينية هي في الواقع "الإدارة المدنية"، ومصدر صلاحياتها هي سلطة الحكم العسكري، على الرغم من الألقاب والمسميات الفخمة التي ترد في الأدبيات الفلسطينية.

وتدليلًا على صواب ما ورد أعلاه، هنا بعض الأمثلة: حينما جرت انتخابات لتأسيس السلطة الفلسطينية في عام 1996، جاءت النتائج متوافقة مع نصوص أوسلوII ولذلك، باشرت السلطة المنتخبة أعمالها دون تدخل من (إسرائيل)، بل بالتنسيق معها. ولكن حين جرت انتخابات المجلس التشريعي عام 2006 جاءت النتائج مفاجئة للحاكم العسكري ومخالفة لتوقعاته، فأمر بمعاقبة أعضاء المجلس وتشريدهم، ومنهم من لا يزالون في المعتقلات الإسرائيلية.

وحين تولى أفيغدور ليبرمان وزارة الحرب الإسرائيلية في عام 2016، أعاد إحياء الإدارة المدنية، وكان يعلن باستمرار عدم وجود شريك فلسطيني، وبدأ بزيادة جهاز موظفي الإدارة. وهنا لاحظت "الحكومة الفلسطينية" ما يخطط له ليبرمان، فاتخذت قرارًا في 2017 أكدت فيه أن قرار تنشيط الإدارة المدنية هو "تقويض" لعمل السلطة و"إلغاء إسرائيلي واضح لاتفاق أوسلو...". ولم يكن كبير المفاوضين، صائب عريقات، أقلّ صراحة حين قال في القناة الثانية العبرية (20/2/2018) إن "الرئيس الحقيقي للشعب الفلسطيني هو وزير الجيش، أفيغدور ليبرمان، أما رئيس الوزراء الفلسطيني، فهو المنسق مردخاي"، وهذا كلام ينطوي على صدقٍ مع النفس، نادرًا ما يصدر عن أوساط قيادية فلسطينية.

بعد كل هذه التأكيدات أن السلطة الفلسطينية وليدة اتفاقيات أوسلو، وهي الإدارة المدنية الإسرائيلية، ما مصير السلطة بعد التحلل من الاتفاقيات التي أنشأتها؟ من المنطقي أن يفترض المرء أن السلطة الفلسطينية ستكون بالضرورة منحلة وغير موجودة، ولا تعود تصرفاتها وأنشطتها مشروعة، وهذا يطرح بقوة مسألة العودة إلى منظمة التحرير باعتبار أنها هي التي وقعت اتفاقيات أوسلو، وأنها ما زالت تمثل الشعب الفلسطيني، داخل الأراضي المحتلة وخارجها، وهي الممثل الشرعي والوحيد لهذا الشعب.

من المعروف أن القيادة الفلسطينية كانت تعيش في أوهام أن إنشاء السلطة الفلسطينية سيقود إلى قيام دولة فلسطينية، وكأن القيادة لم تكن على بيّنةٍ من موقف مناحيم بيغن في مفاوضات كامب ديفيد أو موقف إسحق رابين أمام الكنيست. ولذلك، وتحت ذلك الوهم، بدأت تسحب من رصيد منظمة التحرير وتضخّم في "السلطة الفلسطينية" التي هي "الإدارة المدنية". وهذا سلوك أضعف منظمة التحرير إضعافًا شديدًا، وأصبحت السلطة تتمتع بمظهر أقوى وأنشط من مظهر المنظمة. لذا، يجب إعادة النظر في كل المسار، وذلك بإعادة بعث الحياة في منظمة التحرير، ولتبدأ القيادة بالتحضير لإجراء انتخاباتٍ في أماكن وجود الفلسطينيين لإعادة هيكلة المجلس الوطني، باعتباره الممثل الشرعي والوحيد، ولا سيما أن جيلًا جديدًا قد نشأ بعد مهزلة أوسلو. ذلك أن مشروعية القيادة الفلسطينية ستكون مهزوزة إذا ظلت المنظمة ضعيفة، وبالتالي إن بعث الحياة فيها وإفراز قيادة جديدة بتطلعات جديدة وخط سياسي جديد ودماء جديدة سيكونان بابًا للخلاص من المأساة التي وضعت اتفاقية أوسلو الفلسطينيين فيها. وعلى القيادة أن تتحمل مسؤولية تاريخية في إعادة بعث الحياة في المنظمة، لكي تبقى بيتًا للأجيال الفلسطينية التي ما وهن عزمها، ولا لانت قناتها.

المصدر / العربي الجديد